الأحد، 19 مارس 2023

أكبر بعام وكثير من التغيير ..

 

ظلّ يومُ الميلاد تاريخًا مرتقبًا، حدثًا مستبقًا ومدعاةَ احتفالٍ حتى الآن .. أدركُ هذا العام أكثر من أيّ عامٍ قبلَه حقيقةَ أنني أكبر، وأن هذا العمر محيّر، لا أعلمُ أيعطيني أم يأخذ منّي أكثر ..


لم أحتج مراجعةَ صوري القديمة لأدركَ كم تغيّرت، كان يكفي أن أنظرُ من حولي، أن أتابعَ كم بدّل العالمُ ثيابَه أمامي، كم استجدّت أمورٌ وانقضتْ أخرى ..


الآن وأنا أُحاذي الثلاثين أكثر من العشرين، تراودُني لحظاتٌ ماضيةٌ كثيرة، محمّلةً بمشاعرَ شتّى، لا يُفزعني حضورُها ولا يوجعني مرورُها ..


أذكرُ متصفح (Explorer) الذي أرخى ستارَه وأطفأ أنوارَه مُنذ عامين ونيّف، كان الوحيدَ الذي أعرف، كانَ نافذةً نحو عالمٍ مختلِف، خارجَ ملامحِ المدينة وأوسعَ بكثيرٍ مما آلَف .. أذكر السلكَ الطويلَ مربع الرأس؛ كحيَّةٍ مسالِمة، هي صلتُك بالبعيد، كنّا نسرقُه من الهاتف المزدحمِ وجهه بالأزرار، ندسّه في حاسبٍ غيرِ محمول، وننطلق ..

نتسابق بايميلاتنا من شاكلة “girlX” و”soso0-19” إلى (Messengers)، تتطاولُ رسائلُنا -بأسمائنا المزخرفة مبهرجةِ الألوان والرموزنحو بناتِ عمومتنا في الغربية، تحملُ شوقًا من الرياضِ إلى مكة، وتشحذُ اطّلاعًا واتصالًا يتحدّى جغرافيّةَ المسافات.


على ذكرِ مكة، أقرأ حاليًا روايةً لرجاء عالِم، التي نُسِب إليها فضلٌ أدبيّ في تخليد تاريخِ مكة عبر عصورٍ قريبة الحدثِ بعيدة الشبهفي الصفحات، تأتي رجاء على تسمياتٍ أعرفُها جيدًا، تذكرُ دهاليزَ مررتُ خلالها، أضأتُ سماءَها بالألعاب النارية في عيدالفطرِ، ورأيت دمَ الخرفانِ يلطّخ أرضها في عيد الأضحى، بينما أتسلق النافذة المؤطرة بالخشب لأراقب طقوس الأضحية .. أتساءلُ وأنا أمضي في القراءةما دمتُ أرتبط مباشرةً بما يجولُ هنا، هل يجعلني هذا معاصرةً لتاريخِ مكة القريب؟ يجعلني من الجيل القديم الذي يجدُ نفسَه غريبًا على هذا الجيل؟ أم من الجيل الحديث الذي استرقَ عبقًا من الماضي وعاشَ الآن؟


أعودُ أتذكّرُ ما عاصرت وعقلي بالغٌ بما يكفي لتسجيلِ الأحداثِ واسترجاعِها .. تخطرُ لي الطرق، المشاوير، الشوارع وكل الوجهاتِ التي لا يتأتى لي أن أبلغَها دونَ أن يُقلّني أحدأذكرُ التنسيقَ الذي يسبقُ الخروج، هيبةَ التكاسي وغيابَ تطبيقاتِ التوصيلتُسردُأمامي باختيالٍ الشروطُ الكثيرة التي عليّ إيفاؤها كي يتسنى لي الذهاب، أو لتتمكن صديقةٌ من لقائي، تلفحني رائحةُ ضعفِ الحيلة وقفرِ الوسيلة الذي يحلّ مهما كانت الظروفُ مواتية والعوائل داعمةثمّ باختيالٍ أكبر أَفرطُ الشروطَ جميعها دفعةً واحدة، أهشُّ العبير الكسير وأعودُ للآن، لرخصةِ القيادة، بطاقةِ العبورِ السحري نحو حريّة التحرُك في أُفقٍ أُفقِي باتساعِ ما أريد ومرونةِ ما يخطرلي .. يمرّ الوقت وأعتادُ الأمر، دونَ أن أكفّ عن الحمد على اليُسرِ الذي تحقق والنقلة التي شهدت.



هذا العالمُ سريعُ التغيير بقفزاتِه الأولمبية الكبيرة، لا يسمحُ لي بتجاهلِ عمري، يُشعرني بالامتلاء، ينبّهني سريعًا أني عشتُ عهدًا سبقَ التقنية وانسيابيّة الوصول الحالية، عهدًا كنا نتحوّط فيه حول التلفاز، نرقبُ أخبارَ الخارج، أني شهدتُ انتفاضاتِ فلسطين وثوراتِ الوطن العربي، رأيتُ تحرّرَ الأجهزة من أسلاكِها والأسماءَ من استعاراتِها، رأيتُ تحوّلاتٍ كثيرة لا تتيحُ لي إلا أن أدركَ كم كبرت.. فما نحنُ إلا الأحداثُ التي نُعاصِر، الأشخاصُ الذين نُعاشِر، المشاعرُ التي نحمل، والذكرياتُ التي تزورُنا بين فينةٍ وأخرى ..


مختلفًا عن أعيادِ الميلاد السابقة التي عنونَها الامتنان، لعلّ ما يطغى في ميلادي هذا هو التأمل، كيفَ كُنّا وكيف صِرنا، كم اختلفَ عالمي وكم تغيّرتُ أنا ..

لعلّي أُدركُ الآن، أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى، من أنا ..



خولة فيرق

٢٠٢٣/٣/١٥

يومان قبلَ أن أكبر

بين جدة، الرياض والدوحة




الأحد، 12 يونيو 2022

لسانك انعكاسك

 

على قدرِ المشاعر تكون اللغة.


هناكَ فرق محسوس في لغة الوصف بين النصوص العربية والنصوص الانجليزية، اللاتينية أو اليابانية، العربية تميل لأن تكون أكثر تعقيدًا وأبعد عمقًا، تجدُ الشعور الواحد يتجسّد في عدة صور تشبيهية تُحيطُك به استيعابًا وإحساسًا، كأنها تفضّل أن تحومَ بك حول المقصود بدلًا من تلقينِك إياه، فيُصيبُك الشعور دونَ أن تعرفَ أي كلماتِ الجملة وصفته بدقّة أكبر، كأن الجملة كاملة التفّت بصورِها وأصابتكَ في مقتل. لعلّ الأرض الثقافية المشتركة بينك وبين الكاتب تُعْلمه بمواطِن التمكّن منك، فتنصلُ حروفُه إليكَ من خلالها برشاقة، دون مقاومةٍ منك أو تكلّفٍ منه.


يبدو أن الألسنة تعكسُ طبعَ أصحابِها أو طبيعةَ مشاعرهم، فتجد الانجليزية سهلة مباشرة كأبنائها، والعربية مراوغة حائرة تجولُ حولَ المعاني قبلَ إصابتِها، كحيرتِنا عند كلّ مفترق، على قدر المعطيات والمجاهيل الكثيرة لكل معادلة نحسبها قبل أيّ خطوة نأخذُها. نحنُ نسافرُ بأذهانِنا في صورٍ تخيليّة كثيرة قبلَ بلوغِ مرمى الكلام.


في النصوص المترجمة للعربية، يلفتني الترجمان الذي يقتنصُ مساحاتِ اللغة فيدسّ فيها وصفًا عربيّ الأصل يمنحُ المعنى نفسَه، تجدُه يستخدمُ مثلًا أو تعبيرًا عربيّ اللسان في نصٍ مترجم. لا أعلم إن كان في ذلك خروجٌ عن النهج لكنّه يسبغُ على المقروء شيئًا من الأُلفة والقرب، فيغدو النص المترجم شبيهًا بقارئه العربيّ أكثر.

حينَ أقرأ نصًا انجليزيًا بلغتِه الأصل، أجدني أمرّ عليه بخفّة، لا أحتار ولا أقف أتأمّله، كأن كل الكلماتِ والأوصاف تبلغني منذ القراءةِ الأولى، لا شيء بينَ السطور أو خلفها يستوقفني، مباشرة هي اللغة لا تحملُ معانٍ غير التي تقصدُها بعينِها.

لعلَّ هذا ما يجعلُ القراءة بالعربيّة أمتع وبالانجليزية أسهل وأسرع، ولعلّ هذا نفسه ما يجعلُك تتمنّى أن تُتقن اللغاتِ جميعَها لتقرأ النصوص بألسنتِها الأصل، فتصلُك مشاعرُها ومرامِيها الأصل كما اجتاحت الكاتب في مرّتِه الأولى.


الجمعة ١١ جون ٢٠٢٢

مدينة رسولِ الله