السبت، 23 ديسمبر 2017

عمر الجدل



بقدرِ ما ترقبتُ بلوغي عمرَ العشرين، احترتُ فيه، بدا لي بعدَ ولوجي فيه كأنهُ البرزخُ بينَ كل شيئين؛ بينَ جنونِ الشبابِ ونضجِ العقلاء، بينَ الركضِ في ميادينِ الحياةِ لهوًا وبينَ بناءِ المستقبل الذي سيأخذ شكلًا أختارُه الآن ويصعب تغييره بعد ذلك، بينَ بذلِ أقصى جهودي وجلَّ وقتي في بناءِ غدِي المهني وبينَ الركونِ إلى أمي وعائلتي وقضاء أيامي بسلامٍ معهم، بينَ ذاتي التي أطاردها وأناقضها أحاولُ تشكيلها وإرضاءها وبينَ شخصٍ قد يكونُ رفيقي بقيةَ العمر.
كأنّ العشرين عمرُ الجدَل، عمرُ القرارات المصيرية في كل شيء والتخبطات الجليّة من كل صوب، عمرُ الزلّات المقويّة والعواقبِ المؤدبة، عمرُ القلبِ الذي لا زالَ طفلًا يحاربُ شيبَ الأيامِ وترويضَ الظروف.

بالتفكير في الأمر، هل أنا الآن كما تخيلت نفسي قبل عقدٍ من الآن؟ أو خمسة أعوامٍ على الأقل؟ هل التخصص الذي أمضي فيه أغلب وقتي وأنشغل بمهامه ومتطلباته معظم أيّامي هو ما أردت أن أمضي فيه عمري الباقي؟ إن كنتُ أخفقت في نقطة عابرةٍ على خط الزمن فأخذَت مساعِيَّ منحىً مختلفًا عن الذي رسمته لها- فهل أنا الآن أسير وفقَ ما تمنيتُ حقًا؟ هل سأجدني راضيةٍ عني فيما بعد؟
في لحظة من المستقبل سأختلي بذاتي القديمة والجديدة لتقوم بينهما عاصفةُ الكلام، بينَ محاسبةٍ ولوم وعتاب ونبشٍ في جروحٍ كنت قد أغفلتُها زمنًا طويلًا وأخرستُ أنينَ أوجاعها مذ بدا التئامها مستحيلًا. ستنهضُ الجروحُ يومًا ما، ستُفتَح على حنقٍ وحمَى، سأقفُ على غيظٍ من الماضي قد نمَا، لم يوارِه الزمن ولم يحجبهُ العمى. سأسألني لماذا فعلتُ كل هذا؟ وسأجيبني بأن هذا لم يكن أفعالًا أقدمتُ عليها بل أحداثًا ابتلعتني وتداولتني كما كُتب في قدري.
قد أرضى حين تتجلى خيرة الأقدارِ فيما بعد، لكنني آسفةٌ الآن، آسفةٌ لأني وصلت لمرحلة من النمطية تجعلني أشبهَ بآلة، افتقدتُ الشغف وضللتُ الهدف، صارت غايتي الانتهاء من الأمورِ لا الاستمتاع بها والاحتفاءُ بنتائجها، أصبحتُ أنتظرُ مرورَ الأحداثِ كي يتجاوزها ذهني الشاردُ دائمًا، لا لينعمَ بها، كأنَّ كلَّ الممارساتِ قد باتت مهامًا لا اهتمامات، كأنَّ كل أوجهِ الحياةِ قد تجرّدت من ملامحها.


أتمنى فعلًا أن يستيقظَ شغفي قبلَ أن يخطفني عملي، قبلَ أنْ يفلتَ عقدي الذهبي مني، أتمنى ألا يداهمني عمري فينطفئ جوعي للحياة ويشيب قلبي، أتمنى ألا أغيبَ عنّي الآن وأستيقظَ على مصيرٍ لا يُشبهني.


السبت ٤ ربيع الثاني ١٤٣٩هـ