السبت، 27 يوليو 2019

الثانية والنصف صباحًا - الولادة الأولى



الجمعة ٢٣ ذو القعدة ١٤٤٠هـ الساعة الثانية والنصف صباحًا

أول شهر لي كطبيبة امتياز، اخترت أن أبدأ في قسم النساء والولادة، ليس لأني أحبه، إنما لأنه إلزامي ويبدو ممتعًا إلى حد كبير.
كان كذلك فعلًا، قضيت الأيام الأولى بين العيادات وجناح التنويم، أقابل المرضى وأسجل مستجداتهم، أراقب تفاصيل الجنين وتحركاته البطيئة في ظلماته الثلاث من خلال الأشعة التلفزيونة، تعلمت كيف أحدد أجزاءه متناهية الصغر وأقيسها، وكيف أعرف إن كان ذكرًا أو أنثى. أعترف: يكون العلم ألذَّ وأبقى حين تكسبه من خلال الممارسة.

استمرت الأيام تشبه بعضها، حتى جاءت ليلة المناوبة في غرفة الولادة، كان المطلوب هو مقابلة المريضات وتسجيل معلوماتهن، أما حضور الولادة فليس إلزاميًا. فعلت ذلك خلال النهار، وحين جاء المساء والوضع مستقر، خلدت للنوم مرتاحة البال والجسد. قطع هذا النوم الخالي من الأحلام لشدة هدوئه وعاديته اتصال الممرضة من غرفة الولادة: لدينا ثلاث مريضات جديدات، نحتاج حضورك لتقييم الحالات.
قدمت مباشرة دون عجل ولا تأخير، قابلت المريضات الثلاث، انتبهت لتألم إحداهن أكثر من غيرها، كانت تجيب على أسئلتي بمشقة وصوت منهك يتخلّله أنين، دعوت لها جهرًا وأنا أنوي لها ولادة يسيرة بحق، ثم انتقلت لكتابة المعلومات على الجهاز حيث يمكنني سماع الأصوات من غرفة الولادة دون أن أرى ما يجري فيها. كان هناك تأوهات متقطعة ما دون الصراخ، لا بأس، لا يبدو الأمر جللًا، أستمرُ في الكتابة، والانتقال من ملف المريضة إلى التي تليها. ازداد تتابع التأوهات، خالطه شيءٌ من أنين وصراخ في آنٍ معًا، نادوا على الطبيب المقيم ليباشر الحالة، عرفت أنها في أوج مخاضها وعلى وشك أن تطلق ما برحمها. لم أبرح مكاني، لا أحب رؤية شخصٍ يتألم، سأبقى هنا أتابع الكتابة. ازداد الصراخ، لا بأس، ليس مطلوبًا مني أن أتابع الولادة، أنا أقوم بعملي. صرخت المريضة مجددًا .. أخيرًا سألت نفسي: خولة، هذه ولادة، ليست حدثًا عاديًا لا للأم ولا للطفل ولا للعالم، هذه نقطة ميلاد حياة كاملة وصورة من صور الإعجاز الإلهي الذي استشهد به الله في كتابه، كم مرة ستحصلين على فرصة حضور معجزة!
سألت الممرضة: هل ولدت؟
- لا، إذا أردتِ متابعة الولادة عليكِ أن تسرعي.
حينَ قاربتْ على إنهاء جملتها كنت أنا داخل الغرفة فعلًا، رأيت المريضة مغطاة وعلى جانبيها الطبيب المقيم والممرضة، عند قدميها أمام السرير كانت الأدوات اللازمة للتوليد والخياطة، المكان معقمٌ تقريبًا، لن أجرؤ على الاقتراب، صحيح أني لا أتبين شيئًا من المريضة من مكاني المنزوي، لكن لا بأس، سأكتفي بسماع بكاء الطفل لحظة خروجه. بادرت الممرضة: دكتورة، إذا أردتِ مشاهدة الولادة تعالي هنا. وأفسحتْ لي مكانًا في مواجهة المريضة تمامًا، أستطيع أن أقول أنه البقعة الأفضل لمتابعة المشهد كاملًا.

وقفت .. لم يكن هنالك شيء لأفعله أو أشاهده، لا شيء يحدث الآن، أشعر بتوتر، أتمنى أن ينتهي الأمر بسلام وأغادر بسرعة. فجأة، انقطع هذا الصمت المحيط والشرود الداخلي بصرخة أخرى أطلقتها المريضة متأوّهة، تبعتها تشجيعات الطبيب والممرضة على المضي في الدفع أكثر. انتبهتُ فجأةً لما يحدث، مرة أخرى، هذا ليس شيئًا عاديًا، هذه لحظة مؤلمة الآن ومُبهجة فيما بقي من العمر. تكرر الصراخ وتبعاته، كنت أشعر أنها بصراخها كأنها تنتزع روحها من شدة الألم، في حينِ أنها في واقع الأمر كانت تسمح لروحٍ أخرى بالخروج وخوض الحياة.
لم تكن الصرخات كأي مريض آخر، كانت مختلفة، قوية، متألّمة ومتلهّفة في آنٍ معًا، تكررت غيرَ مرة، وفي كل مرة كانت تقشعرني، أشعر بالصوت يلجني ويمتدّ في جسدي كاملًا، فيختضّ دمي وتهتزّ أحشائي، أراقب اقتراب رأس الطفل، صغير جدًا، أصغر من الصور ومما يبدو عليه في الأشعة التلفزيونة، أفترض أنه سيخرج الآن، لكنه لا يفعل، يعود فيختفي من جديد والأم المرهقة تحاول إخراجه من جديد. بعد عدة دورات من الألم والدفع والتشجيع، علا صوت الطبيب وهو يقول: ادفعي أكثر، اقترب، اقترب للغاية، لم يبقَ إلا القليل.
أخرجتْ صرخة من أعمق الجوف إلى أقصى الفضاء، حتى ظننتُ أن المبنى كله يشعر بالألم، تبعها بكاء ..
بكاء خافت، بصوت ناعمٍ عميق، يُظهر حداثةَ صاحبِه.
وبعد البكاء الرقيق حلَّ الهدوء وتمكّنَ منا السلام .. اختفى الضجيج فجأة، لا مزيد من الألم ولا الآهات ولا التشجيعات؛ كأن الوليدَ بصوته قد سمحَ للمشاعر والأنفاس بالارتياح.

خرج الطفل بسلاسة مذ ظهر رأسه، وبعد دقائق خرجت المشيمة بسلامٍ أيضًا، لم ألاحظ تفاصيلَ ما حدث بعد ذلك. سألني الطبيب سؤالًا علميًا، لم أجب، في الواقع، لم أسمعه أصلًا، كنت أقف مذهولةً حيث أنا، أراقب استعادة الأم لهدوئها، أستعيد تنهيدتها لحظة خروج الطفل، كانت أكثر لحظة تمثّلَ لي فيها "تنفسُ الصعداء"، أخذتْ الطفل إلى صدرها، فهدأ من فورِه، وابتسمتْ هي مطمئنة، كأنها عاشت عمرها السابق كله تحصي الأيامَ وتستعجل الليالي لأجل هذه الساعة (رغم أنه ليس طفلها الأول)، وكأنه يقول بارتياحه بين ذراعيها: إني لم ائتلف غيرك، فآلفي بيني وبين الحياة.

لا أعرف ماذا يُقال في هذه اللحظة، لا أعرف ما هي عادة المشاعر التي تصاحبها، لكنها كانت مذهلة حتمًا! كل شيء يدعو للدهشة، صوت الأم صاخب المشاعر، قدوم الطفل الوادع، التغيرات السريعة خلال مراحل الولادة، وتمامُها بسلام وحب.
الأمر مدعاةٌ للتأمل بحق، أن تُخرجَ إنسانًا آخر، عمرًا آخر، حياةً مختلفة بتفاصيل منفردة ومصير مستقل؛ من جوف إنسانٍ آخر، معجزة حقيقية!

من أغنى لحظات عمري شعورًا، انتابتني أحاسيس مختلطة، مفعمة وممتلئة، كانت أكبر بكثير من أن أبقيها داخلي، فكتبت هذا النَص في حينها بالضبط. ومع أني لا أقدم شيئًا على النوم، إلا أن الاستيقاظ لمباشرة حالة ولادة وحضور انطلاقة حياة جديدة، أمر يستحق تركَ ما سواه، حتى إنني من فرط المشاعر الجميلة التي تملّكتني لم أستطع العودة للنوم من جديد، ممتنّة بحق لهذا القدْر من الدهشة والتأمل .. الحمد لله.


الجمعة ٢٣ ذو القعدة ١٤٤٠هـ
في بهو المستشفى الرئيسي