الأربعاء، 30 مارس 2022

الأسبوع الأخير - الذكريات

 

بدا مريحًا ألّا ترتبطَ بأحد في ميعادِ أكلك، نومِك أو عودتك للمنزل، كنتُ سابقًا أتجنّب تناولَ وجباتي وحيدة، وإن كلفني ذلك قضاء يومٍ كامل دون طعام، لأن أحدًا لم يلتقِ وقت فراغِه بفراغي فنأكل معًا. حينَ أخذَت الحياة تنحو منحى جديًا أكثر وتمنحني مسؤوليات تتطلب طاقةً تكفي للتفكير واتخاذ القرارات على الأقل، انتبهت أنّ من غير العملي أن أُرهن حاجةً بيولوجيّةً كهذه بوجود أحدهم من عدمه، صار من الحكمة -على أقل تقدير- أن أستجيبَ لجوعي متى دقّ، بدلًا من تجاهلِه، فصرتُ آكل لمامًا، ما يكفي لأتابعَ يومي، وأؤجل وجبتي الرئيسية لما بعد. حينَ مكثتُ في الرياض، صار الأصلُ أن آكل وحدي كلَّ الوجبات، باختلاف أحجامها وأوقاتِها، مع الأيام، وتكرار الضروري الذي لا أحبّ، ألفتُ ذلك. طابَ لي أن آكل ما شئت متى شئت، صرت أستمتع بالأكل منفردة وأتلذّذ، لم أعد أعامله كمهمّة علي الانتهاء منها فقط. أستطيع القول أني تجاوزت نقطة من نقاط ضعفي، وإن بدت طفيفة سخيفة.


أخذت ملامحُ المدينة تروقُ لي أكثر فأكثر، ويطيب لي التجول فيها، صار قضاءُ الأيام قابلًا للتشكيل وفقَ ما أخطط أو ما يخطر على بالي حينها، وقتي الخاص الذي كنتُ أحشره بينَ التزاماتي، صار عندي بوفرة ودونَ مشقّة، باتَت الطُرقات ميدانًا وملعبًا، متى استوقفني فيها مقهى، نزلتُ فيه دونَ تنسيقٍ مع أحد، وقضيتُ الساعات بين قهوةٍ ورواية، في واحد من أبهى أشكال الاسترخاء والسلام بالنسبةِ لي. لعلّ هذا تأصّل أكثر حين قدتُ السيارة، فلم أعد أتقيد حتى بإتاحة السائق، وهذا التحرّرُ من الروابط منعشٌ للغاية، تأتّى لاختياراتي أن تكون وليدة اللحظة دون أن ينجم عنها عطل، وراحت الساعات تجري كما يجري خاطري دونَ سباق بينهما.


مع اقتراب ميعادِ مغادرتي للرياض، يجتاحني الحنينُ إليها، بدا أننا ننتمي ونحنّ للذكرياتِ، لا للأماكن، أشعرُ الآن بالامتنان للرحلة، لأنني اخترت القدوم، للفرصة التعليمية التي حظيت بها والتجربة الشخصية التي استمتعتُ خلالها، للعقول الجديدة التي التقيتُها، ولحظاتِ الانفراد المسالمة التي نأيتُ إليها، شعورُ الامتلاء هذا يدفعني لخوض تجربة مشابهة مرةً أخرى، هُنا أو في مدينةٍ أخرى، لعلّنا لا نكتفِ من وقتٍ نقضيه مع ذواتِنا، في حضورٍ تام، دونَ ركض أو احتدام.


في الواقع، حينُ أراجع أيامي من لحظة الوصول للآن، أجدني أحببت الرياض بعد سفر عائلتي إليها، بعد نهاية الأسبوع المفعمة بهم، بعد أسابيعِ العمل التي انتهت بالتقاءِ أشخاص حياتي، فأترعتني طاقةً لقضاء أيامٍ أخرى هنا، أجدني أحببتُ الحياة الهادئة المستقلة ما دام يتخلّلها صخب الأصدقاء ودفءُ الأسرة بينَ حين وحين، وهذا أبهى اتزانٍ شعرتُ به .. لعلَّ كلا نمطي الحياة -الانعزالية والمغمورة بالعلاقات- جميل ما دامَ اختيارًا نستمتعُ به، لا اضطرارًا نتصبّر عليه.


٢٠٢٢/٣/٣٠

على الطائرة بين مدينتَيّ

الثلاثاء، 29 مارس 2022

الأسبوع الثاني - المكان

 

أتذكر أقصوصة ألزهايمر لغازي القصيبي، لم يلفتني إبّان قراءتِها أن يعقوب العريان حين احتار في تصنيف المنشأة التي تحتضنه ومصابي ألزهايمر، اختار أن يسميها "المكان"، بدت التسمية تجريدًا من الانتماءات والمعاني، لتدل فقط على شيءٍ ما، شيء عرّفه نحويًا، بينما أبقاه نكرة ضمنيًا، اسم لا يوحي بشيء ولا ينطوي على شيء ..


أستطيع الآن أن أعي مقصده وأرتبط به إلى حد ما، أنظر إلى هذه الشقة المفروشة التي افترشَتْها أيامي الجافة في الرياض وأعجز عن تسميتها، هل تكون منزلًا؟ لكن المنزل ما تنسحبُ من ازدحام يومك لرحابة دفئه وحميمية أثاثِه، تجلس على أريكة تحمل ذكريات أكثر مما حملت أجساد، تتحرك في مساحاتٍ تحفظها وتألفُك، تفتحُ خزائنَ لم تتغير عما تركتْها عليه ليلة أمس، بالترتيب التلقائي الذي اجتهدت فيه والفوضى المتوقعة التي أحدثتها، جهاز التكييف يحفظ درجة الحرارة التي عيّرتها، أمتعتك كلها هنا، وإن لم تستخدمها لسنين، ستظل باقية تنتظرُك. كل الأشياء تشبهُك، تشتاقُ عودتَك من زخمِ يومِك لتحتضنك. أما هذه الشقة فكسوتُها من كسوةِ أخواتِها في كل العالم، الخشب البني الصريح، المطبخ الصغير، الأرفف المختصرة، والأدراج الفارغة من الذكريات والأمتعة. المنزل مرفأك الآمن الهادئ، أما هُنا .. لعلي أأمنُ المكانَ وهدأتَه، لكنني لا أأمنُ فيه مشاعري وضجيجها، أخشى كل يوم ما سأشعر به لاحقًا، في المكان الأصم الذي سأبيت فيه لأشهر.


فكرتُ أنها قد تشبه الفندق أكثر من المنزل، نظرًا لنمطيةِ تصميمِها، لحقائب السفر الكبيرة المتربعة على سطحها، لخدمة الغرف وموظف الاستقبال الذي يسعى لإيجادِ سائق يوصلني للعمل، بعد أن شهد انتظاراتي وخيباتي من تطبيقات التوصيل مزاجية الأسعار والأوقات! لكن الفندق للإقامة الممتعة القصيرة، للهرب من نمطية الأيام لأدرينالين السفر، لمفاجآت المغامرة والتجارب الغامرة، لتقضي اليوم كلَه تمرح في ميادين المتعة والحداثة ثم تعود تلقي جسدك الطافي من فرطِ ابتهاجِه على السرير الأبيض والوفير، كأنك بكاملك طائرة سياحية مطمئنة على ظهر غيمة، وغدًا تنطلق في تجارب أخرى بذلت في الإعداد لها وقتًا ومالًا وخططًا. كان هذا شعوري في حضرة عائلتي، حين سافروا للرياض فجأة دونَ سابق إنذار لي أو تنبؤ من قبلهم، فحولوا نهاية الأسبوع الرمادية الباهتة إلى مهرجانٍ من مشاعر فيّاضة الألوان، كان مدهشًا وغامرًا أن يتكبّد أحد عناء السفر كي لا يتركك تقضي إجازتك وحدك، كي يغدو أُنسك وأغنيتَك، كان هذا اللقاء زاخر الاحتواء، بما يقويني لمتابعة الأسابيع التالية بعد عودتِهم.


٢٠٢٢/١/١٠

الرياض - حين كانت المكان