الخميس، 17 مارس 2022

لأعوامٍ أكثرَ حياة



خرجتُ من مناوبةِ الأربعة وعشرين ساعة نحو البيت، وضّبتُ حقيبة السفر على عجالة، استحممت وخرجت للمطار، لأنطلق في رحلة يوم الميلاد التي خططت لها مع آمنة، صديقة العمر التي تفصل بين ذكرى ميلادي وذكرى ميلادها ثلاث ليالٍ.
لأننا نكبرُ معًا، اخترنا أن نُمضي هذه الذكرى سويًا، أن ننسلّ من وتيرة أيامِنا المعتادة ونحظى بتجربة جديدة في كل عام، وإن كان ذلك يقتضي السباقَ مع الزمن للحظو بوقتٍ جنونيّ يشبهُنا.

لعلّ هذا الركض ليسَ غريبًا علي؛ حين أعودُ بذاكرتي لأيّامي القريبة السابقة، للسنين البعيدة، أتذكّر أنشطتي باختلافها، بالمشاعر المصاحبة لها، والمشاعر التي تليها. لاحظت أنّني أولي اهتمامًا كبيرًا للـ "فلّة" للوقت الممتع عمومًا، أعامله بمسؤولية، أحرص أن يسبقه تخطيط، ترافقه متعة ويليه امتنان.
حين تطلب مني عائلتي اختيار وجهة ترفيهيّة يروقني ذلك، أشرعُ أمعنُ التفكير في أي الوجهات ستمنحنا وقتًا أحبّ، أتخيل كل فرد من العائلة في كل وجهة، ما الذي سيفعله؟ وما الذي سيبهجه؟ ثم أختار المكان الذي يمنحنا جميعًا -بتفاوتِ أعمارِنا وميولِنا- تجربةً مثرية تزيدُنا حياة، ووقتًا يعجّ بضحكاتِنا واندهاشاتِنا، متبوعًا بالرضى والاكتفاء. أنتقي التجربة التي نعودُ منها أكثر امتلاء، نحبُّ بعضَنا ونحبُّ الحياة أكثر.
كنتُ فيما قبل أشعرُ بخسارةِ الوقت والجهد الذين أقضيهما في تخطيط المتعة، وألومُ نفسي على بذلِ كل ذلك. انتبهت مؤخرًا أن تحقيقها لي أو لغيري يمنحني شعورًا وافيًا مرضيًا، كلّما تذكرت حبورَ أحد بما قدّمتُه أو سعيتُ له، ينشرح صدري ويطيب فكري. إذا كان أحبُّ الأعمالِ إلى الله سرورٌ تدخلُه على قلبِ مسلم، فلا عجبَ أن يكون هذا أحبّ الأعمالِ إليك. يبدو منطقيًا الآن، كل الوقت الذي خصصته لأستمتع والوقت الذي قضيته أخطط وأحضّر لذلك، طالما أنه لم يؤثر سلبًا على جوانبِ حياتي الأخرى.

إلى جانبِ الوقت المخصص للمتعة، لاحظت أنني غدوتُ أسعى لتلقّفِها وصنعِها في كل ما أفعلُه، في عملي اليومي، في طريقي للعمل وعودتي منه، في الوجبات التي أستطعمُها، في الدراجة الهوائية التي أطيرُ بها، الأماكن التي أقفز بينَها، الوجوه المألوفة والجديدة التي ألتقيها، الأحاديث العابرة والعميقة، حتى في مذاكرتي والمهامِ الورقية الطويلة أراني وجدتُ طريقة للاستمتاعِ بها. ظهرَ أن الاستمتاعَ بالشيء يبدأ من شعورِك به وإمعانِك فيه، أن يكونَ ذهنُك وجسدُك حاضرين في ذات المكان، هذه الخطوة التي تدفعك للاستمتاع بما يحصل وما تفعل، أن تكون حاضرًا يقظًا الآن وهنا، بعدها ستشعر بالامتنان لأنك حضرت كاملًا، فتمامُ الشعور من تمامِ الحضور.
منذ انتبهتُ لذلك بدت الأيامُ أكثرَ ثراءً، أعلى إنتاجًا، وأحبَّ مرورًا، صارت الأمورُ الاعتياديّة مدعاةَ فرحٍ وامتنان، صارت الرياحُ تجري كما يحلو لي، أو أجري أنا معها بدلًا من مقاومتِها، ويطيبُ لي هذا الجري.

أتذكر الآن حفلات ميلادي السابقة، فأحبّ كونها صاحبت مغامراتٍ كثيرة، وأنّ ما بينها كان مترعًا بالتجارب كذلك، أحبُّ أنني أمارسُ ما أحبّ -الحمد لله- وأنني رغمَ حبّي له، لا أتصومع حولَه وأنسى قِيَمي واهتماماتي الأخرى، أحبُّ طبيعتي العمليّة جدًا وجانبي الجنوني أيضًا. وأحبّ أن مما أقدّمه لعائلتي قيمةَ الاستمتاعِ بالحياة والوقتَ الطيّب المَمْضي بيُمن، مع أنني كنتُ أفعلُه دون إدراكٍ مني، لعلّي الآن من عامي السادس والعشرين، أنوي دائمًا إيجادَ المسرّة والرضى فيني وفيمن حولي، أسعى لأكون حاضرَة الآن وهُنا، شاعرَة بمجريات الحياة حولي وداخلي.

ولعلي لا أتوقف عن الإقدامِ على شيءٍ جديد، كلما مرّ بي عام، لأزيد أيامي بركةً وحياة.


٢٠٢٢/٣/١٧
‎الكويت، ليلة الأوبرا الموسيقية التي أحضرها لأول مرّة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق