الجمعة، 26 مايو 2017

رابع طب- سنةُ الخيرة


أمس الخميس ٢٩ شعبان ١٤٣٨هـ انتهت رابع سنين الجامعة، لتُعلن تخرّج أغلب أترابي ومروري بمرحلة زمنيّة هي أقرب للتخرجِ من البدء.
مضت رابع مختلفةً عمّا قبلَها، ومضيتُ فيها مختلفة عنّي إلى حدٍ غيرِ كبير. في مواقف كثيرةٍ خلالها كانت تتجلى آية " فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا" بدايةً بالتخصص الذي انتميتُ له دونَ تخطيط مرورًا بسياقِ المواد الذي لم يواكبْ ما أردت.

لمْ تكن كلية الطب خياري الأول ولا الأخير، كانت نتاجَ عواملَ شتّى، كأنّ غيومَ الظروفَ اصدمت فاضطربت وأمطرتَ حدثًا لم يكنْ جزءًا منها. طوال السنتين الماضية لم أكن متأكدة من أنّ هذه الكلية مكاني أو هذا الميداني ميداني، فكرت بتغيير التخصص غيرَ مرّة، وسعيتُ لذلك مرتين دونَ أنّ يتيسّر الأمر. كنتُ أنزعج، فأصبّ شيئًا قليلًا من انزعاجي ثمّ أتابع المضيّ ببالٍ غيرِ مهتدٍ، حتّى أتت رابع -أولى السنين الإكلينكية وأكثرُ السنين عذوبة-. بدت الموادُ أكثرَ متعةً ودراستُها أكثرَ منطقيّة، صارُ العلمُ متصلًا مباشرةً بالحياةِ العمليّة، صرتُ أقرب للمرضى، للمجتمع ولنفسي. بدأ الطب يروق لي رويدًا رويدًا، ليس الخيار المثالي، لكن خيرتَه بدأت تتجلّى.

أمّا عن مواد العام، فقد كان الفصلُ الأول مسليًا باختلافِه، ثريًا بتجاربِه. في الباطنة والجراحة وتدريب التخدير كان عليّ أن أفكّر كطبيبة وأتصرّف كطالبة، بدا الأمر شيّقًا، أنا هُنا لأفكّر، لأصنعَ روابطَ بينَ ما أعرف وما أرى حتّى أهتدي إلى تشخيص أو إجراء. كانت ساحةُ التحليل واسعة ومساحة الخطأ متاحة، أُجرب فأصيب فأشعرُ بالامتنانِ لعقلي، أو أخطئ فأتعلّم دونَ أن يلحق الضرر أحدًا؛ بما أنّ الإجراءات ليست مترتبة على قراري.

بعدَ ذلك كان الفصلُ الدراسي الثاني الزاخم بالمواد، تمنيّت أنْ أبدأ دراسة طب المجتمع أولًا بما أنها المادة الأكثر ثقلًا في المعدّل والأكثر طولًا في ساعاتِ الدوام، لكنّ القرعة أقرّت بأن أبدأ دراسة أمراضِ العيون أولًا (أكثر المواد سهولة وأقلّها دوامًا) وكان ذلك من أكثر الأمور خيرةً -الحمد لله-. قبل أن يبدأ الفصل الدراسي ألمّ بأمي عارضٌ صحّي استدعى بقاءها في المستشفى لعدّة أيام، فسمحت لي المادة السهلة بالمبيت معها طوال فترة مكوثها، كنت أقضي الوقت مع أمي في المستشفى، أذهب للجامعة لحضور الساعات القليلة المقرّرة ثم أعود للمستشفى غيرَ منهكة ولا مضطّرة لبدء المذاكرة، فالمحاضرات خفيفة بما يكفي لتسعها أيام قليلة قبل الاختبار. لمْ يكن هذا ليحدث لو أنني بدأت بطبّ المجتمع لأقضي سبع ساعاتٍ في الجامعة ثمّ أعود وعلى كاهلي كمّ هائل من المتطلبات الدراسية.
وعلى الرغم من أنّ مبيتي في المستشفى استمرّ طوال فترة المادة، إلا أنني راضية تمامًا عن أدائي الدراسي فيها -الحمد لله-.

أخيرًا صدر قرار تقديم الإجازة، حينَ تمّ الإعلان عنه كان ما يزال أمامنا ٤ مواد لم نبدأها بعد، تشغلُ كلّ منها أسبوعين في العادة، فاختزلت تبعًا للقرار كي ندرس كلّ مادة في أسبوع واحد، ما يعني إمضاء كل أيام الأسبوع في الجامعة وكل نهايات الأسابيع في المذاكرة استعدادًا لاختبار المادة الوحيد ذي الكمّ الضخم من الدرجات. في البداية لم أستلطف الأمر، سيكون التحصيلُ أقلّ من المفروض والأداء أضعف من المطلوب. لكنّ الأمرَ مرّ مخالفًا لما توقعت، لمْ يكن الدوام بذاك الطول ولا المحاضراتُ بذاك الثقل. بفضلٍ من الله مضى كل شيءٍ عذبًا يسيرًا سريعًا، واكتسبت جرّاء ذلك عاداتٍ دراسية جيدّة، لمْ أتطرّق إليها من قبل.
فعلًا، ممتنّة لأن الإجازة سبقت رمضان، أجدني بحاجةٍ لأيّام متخمة الروحانيّة بعيدًا عنْ كلّ مشاغل الدنيا.



الحمدُ للهِ على خيرةِ أقدارِه وإنْ لم ندركْها إلّا متأخرًا .. الحمدُ للهِ الذي يحفّنا بلُطفه وتيسيره وحُسنِ تقديره .. الحمدُ لله الذي يعلمُ ولا نعلم فيهدينا إلى ما هوَ أفضلُ وأسلم.


الجمعة ٣٠ شعبان ١٤٣٨هـ
النقطة بينَ نورِ العلم ودفء العبادة

الأربعاء، 3 مايو 2017

ابنك ليس أنت


عزيزي الأب،
قدْ أبدو صغيرة على أن أشير عليك في شأنِ تعاملِك مع ابنِك، وأقلّ خبرةً من أن أدلي برأيٍ يفوق رأيكَ حكمة، لكن باللهِ عليك هبني مساحة إصغاء تسمح لقولي أنْ يفيضَ بما يعتلجُ فيّ من مشاعِر. ولتعلمْ أنّ ابنَك وابنتَك حتمًا راودتهم ذاتُ المشاعر أو شيءٌ منها على الأقل.

كانَ دلوكَ دائمًا نفّاذًا لأعماق البئر، ودلوي لم يزد على أن يلقي نظرة حائرة من أعلى الحرف ثم يلتقم من دلوكَ رأيه! ماذا لو استمعتَ إلىّ يومًا؟ ماذا لو تركتَ لي فرصة ولوج البئر؟ أخوض غياهبَه، أجوبُ أعماقَه، أنبشُ فيه عن ضالّتي، حتى أقعَ على ما يروي ظمأ رغبتي الجامحة للتجربة وتوقي لإثبات الذات.

أتذكرُ يومَ أخبرتُكَ بقرارٍ مصيريّ يخصني؟ حدثتُك بكل حماسٍ عما أنويه، أمضيتُ وقتًا غير قصير وأنا أسردُ عليك خطّتي التي رسمتُها بدقة، ظننتك ستثني عليها، ستطريني وتشجعني، ستأخذُ بيدي لتعينني على عبور الطريق نحو ما أريد. لكنّ شيئًا من ذلك لم يكن ..
فللتَ كل الحروف التي نسجتُها أمامك ونثرتَها مع مهبّ الإعراض، ثمّ أمليتَ عليّ حرفيًا القرار الذي تراه أصلح لي، كنتُ أمتلكُ القوة الكافية لأقول "لا" وكان لصمتك قوةٌ أكبر تجعلني أبتلع هذه الـ "لا" بعد أن لفظتها!

أوقن تمامًا أنكَ تريد الخيرَ كل الخيرِ لي، أعلمُ أنك تحاول جاهدًا اعتصار خبراتك وتجاربك الفائتة لتختار لي الصواب، لكن ماذا عنّي؟ عن شبابي، عن زماني الذي تغير تمامًا عن زمانِك، عن الناس الذي ما عادوا أبدًا كما كانوا حين شبابك؟ بحكم الفارق العمري بيننا، أنت تفوقني خبرة وأفوقك حيوية، تفوقني معرفة وأفوقك إقبالًا وحماسًا. أشرعْ لي أبوابَ ذهنِك الثري أنتقي منهُ ما يثيرني تنفيذه وخوضُه. حينها سيغدو القرار حكيمًا مُرضيًا، وسيسرّك حتمًا.

عزيزي الأب،
تذكر أنّ طفلَك ليسَ ملكك، هوَ ابنُك وابنُ زمانِه أيضًا، هو جزءٌ قد تجزأ منك فغدا كيانًا مستقلًا بذاتِه، يُكنّ لكَ جزيلَ الحبِ والانتماء، لكنّه ليس أنت.


مِن ذاكرةِ القلم
 السبت ٢٥ صفر ١٤٣٨هـ