الاثنين، 12 ديسمبر 2016

حدث .. يوم الإعاقةِ العالميّ

إنْ لمْ تجدْ سبيلًا للسعادةِ، أو مثارًا للدهشة فانظر في وجوه الأطفال .. سترى أعينًا تنضخُ بالعذوبة، شفاهًا تقطرُ بالفرح وملامحَ تنطقُ بالدّهشة لكل الأشياء الصغيرة التي لا تُلفتك.

هذا تمامًا ما حدث في يومِ الإعاقة العالمي ..

بالنسبة لي، كان أسبوعًا غنيًا بالمهام، مثقلًا بالعمل، كنت أخرج صباحَ كل يومٍ لأعود قبلَ منتصفِ الليلِ بقليل، حتى أنني لم أقابل أمي ليومين متتاليين مع أننا نبيت تحت ذات السقف، لا تفصل بيننا أميال ولا خلافات! كانت حقبة من الزمن شربت فيها القهوة بنهم، أكثر من أيّ فترة سابقة؛ ففي ظلّ التجارب الجديدة التي تحمست لخوضها بدا النومُ حُجّةً لحوح تقضمُ من اليومِ قطعةً غيرَ هيّنة.
في الواقع، مضى الأسبوعِ لذيذًا بكل ما فيه من مشقّة، ممتعًا بكلّ الذي يعتريه من كبَد، ولأنّ آخرَ الزجاجةِ أزكاها وأعتقُها فقد كان يومُ الجمعة أثرى الأيامِ جمالًا.

استيقظتُ صباحَ الجمعةِ ولمْ يكنْ سريري قد ألِفَ مضجعي بعد، خرجتُ مع غادة -الصديقة التي تشبهها روحي في كثيرٍ من تفاصيلها- لنغادر مكة مع كل القلوب اللطيفة الجديدة عليّ إلى مدينة الملك عبد الله الاقتصادية. كان مكانًا مثاليًا للفعالية، لنْ تجدَ قطعةً على الأرض أكثر حُسنًا وأبهى نغمًا من تلكَ التي يلتقي فيها أخضر الطبيعة بأزرق البحر.

كجزء من المشاركين في الفعالية، انطلقنا ننصبُ الأركان ونشيّد أسباب الفرح .. بدا بهيًا جدًا مشهد الفريق حين انتشر على بساطٍ بلون الجنّة بمجرد وصولِه، كحبّاتِ لؤلؤ انسلّ خيطها لتوّه أو كزخّات مطر انحلّ عنهَا طوقُ الغيم. انهمكَ كلٌ في عملهِ، هذا ينقل الطاولات الخشبية من بقعةٍ لأخرى كأحجيّة يحاولُ إتمامَها في أبهى صورة، وآخر عاكفٌ على تثبيتِ الألواح كرايات سلام. قريبًا منهم تحلّقت الفتياتُ على خصوبةِ الأرض؛ تمامًا كما يزيّن الجيدَ الصافي عقدٌ أنيق، هذه تقصّ الورقَ كما يروقُ للعينِ أنْ تراه، بجانبها أخرى تلفّ الهباتِ لتضفيْ على فرحِ الهديّة وقعَ المفاجأة.
يالجمالِ منْ ينمّقونَ التفاصيل!
أمّا هُناكَ بمحاذاة الطريق فقد كان الشُبّانُ يحملون على عواتقهم الحاجيّاتِ التيْ من شأنها أن تدخلَ البهجة على قلوب الأطفال.
في غمرة الشغف، مضَى السعيُ عذبًا سائغًا على وقعِ نغيِ الموجِ واندفاعاتِ الهواء. لمْ تضنْ علينا الطبيعةُ بمفاتِنها.

بدأ الضيوف في الولوجِ، أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة مع أهليهم وأطفال ليسوا كذلك، عرب وأعاجم، شعوبًا وقبائل من شتى طبقاتِ المجتمع. كان شيقًا خوضُ الحديثِ مع أعرافٍ مختلفة وآراء متباينة.

وقفت ككل المشاركين أستقبلُ الأطفالَ في ركني لستِّ ساعاتٍ متلاحقات، وسأكذبُ إن قلتُ أنّ الملل قد تسلل إلي.

أطلقتُ لعينيّ عنانَ تأمّلِ ملامحهم المرحة في ظلّ انغمارهم في التلوين والرسم، الأنامل الصغيرة التي تتشابك عند علبة الألوان، النظرات الطفلة أثناء انبهارها بالرسومات، الأيدي الملوحة بما أحرزته من فنّ حينَ يتباهى كلٌّ بلوحته أمام ذويه. ويا لطربِ الضحكات! الهتافات المتحمّسة، الحواراتِ البريئة، نبراتِ الحماسِ الممزوجةِ بالمتعة .. كلّ أصواتِ السعادة شجيّة، بعلوّها إنْ هاجتْ، صخبِها إنْ ماجت ووداعتِها إذا لانت.
تخللّ الأنشطة سؤالنا لكل طفلٍ عنْ حلمه، فحدثَ أن سألتُ "صِبا" ابنةُ الثمانية أعوام عمّا تريد أن تكونَه حين تكبر، أجابت: "أبى أصير دكتورة وأفرّح الصغار زيك!"
يا ربّآه كمْ كانَ وقعُ جملتِها ساحرًا، كمْ كانَ قولُها آسرًا، كمْ كانَ لُطفُها باهرًا .. كوقعِ نسمةٍ باردةٍ أو غيمةٍ ذائبة على أرضٍ يباب، كأنّ روحي قدْ أقفرتْ فكانت "صبا" لها الريَّ والعُباب.
كنتُ في قلبِ المشهدْ وبقي المشهدُ في قلبي ..!

بحمدِ الله، مضَى اليومُ المحشوّ بالفرحِ كأجملِ ما يكون، سُخّرنا لرسمِ ابتسامة، لإطلاقِ ضحكة، لإخراجِ قلبٍ من جُبِّ الحَزَن، لإذهال عينٍ وشّاها الشّجَن، لتنشيطِ فكرٍ وإجلاءٍ فن، لنُثبتَ أنّ الإعاقةَ لا تكبحُ ما فيْ العقلِ من حُسن.


يا ربْ، هبنَا من كمالِك، لنُسعدَ ونُصلحَ ونُلهِم.



الجمعة ٣ ربيع الأول ١٤٣٨هـ
على خطّ تناغمَ فيه النبتُ والنجمُ والبحر