الثلاثاء، 1 سبتمبر 2020

رحلة "أقرأ"


هل يغتربُ المرء في أرضِه؟ أو هل تتنكّرُ لنا أماكِننا؟

يجتاحني هذا السؤال محمّلًا بالحنين وأنا في قلب جدة الصاخبة والضاجّة بالحياة، بعد أسبوعين -مُترَعَين بالأحداث والتجارب والأشخاص- قضيتهما في الخبر، بل في أبهى بقعةٍ منها، مكتبة إثراء الثريّة بمكنوناتِها.

أذكرُ جيدًا اللحظة التي علمتُ فيها بخبر تأهلي لملتقى "أقرأ" الإثرائي لعام 2020، العام الذي أحظى فيه بآخر إجازة صيفيّة طويلة، ولعل هذا ما زاد الرحلة بهاءً، إذ أنني خفيفةُ الهمّ والمسؤولية، متفرغة للانخراطِ والاستمتاع. حينَ وصلتني رسالة التأهيل تفاجأت حدّ أنني قرأتها بصوتٍ عالٍ كيْ أتثبّت من كوني لا أخطئُ قراءتَها فأحتفي بما لم يحدث، لم تكن المفاجأة لشدةِ ترقبي بل لأنني استبعدت احتمالية ذلك حتى نسيتُ الأمر، وأظنني فعلتُ هذا كي لا تخذلني تطلعاتي وتذبل مشاعري.

منذ تلك اللحظة انطلقت اللهفة ..

قدمتُ إلى الخبر، فمكثتُ أنزل في حضرةِ الحلم وضيافة الدهشة كل يوم. جمع الملتقى ألوانًا شتّى من الأشخاص يجمعهم حبّ الكتب، متنوعين في الأعمار، المناطق، التخصصات الدراسية، الميول القرائية، الخلفيات الثقافية واللهجات، وهذه الشاكلة من البيئات التي تعجّ بالاختلاف تفتنُني. كنتُ أطربُ كل يوم حينَ يدورُ الحوارُ عربيًا مطعّمًا بأصواتٍ تنحني في مواطن وتقفزُ في أخرى، فتعطي كلّ مشاركٍ هويّة، أستمتع وأنا أستمع للمشاركاتِ الأنيقة التي تعكسُ اهتمام كل قارئ وقارئة. مضت الأيام مبهرة رغمَ تواليها، ثريّة الأحداثِ والذكريات رغمَ محدودية عددها، نغادرُ الفندق كلّ صباح إلى المكتبة التي تأسرُك حتى قبلَ أن تلجَها بمعمارِها الأخّاذ وتصميمها الفريد، فتظنّ أن سرَ جمالِها في مظهرِها، حتى تدخل إليها لتؤتيك أبعادًا أخرى من الجمال. ننهمكُ بحبّ في فقراتِ اليوم، نكتبُ، نناقشُ، نعلّق، ننصتُ للكُتّاب والأعلام الثقافية التي تزورنا، نسترقُ لحظاتٍ عديدة للحديث، ولحظاتٍ أكثر للضحك، ثم نسلّمُ أنفسنا للقطعة الفنية من اليوم. تمرّ الأيام بنمطٍ واحد إلا أنها لا تتشابَه، تدورُ أحداثُ اليوم البارزة وتفاصيلُه الصغرى مع نفس الأشخاص، هم شُركاء الإفطار، رفقاء الطريق، أبطالُ الحوار وصانعو الذكريات التي لم تتخيّل صنعَها، المدهش أنك أينما وليّت بصرَك قابلتَ أوجهًا مألوفة ومحببةً إلى قلبِك، إلا أنك لا تكفّ تأنسُ بها مهما طالَ بكم الوقت.

 

دائمًا أقول "كلّ شخص ألتقيه هو بمثابة كتاب، يفتح لي آفاقًا ومدارك لا تخطر لي." فكيفَ بأشخاصٍ جمعتْني بهم مكتبة؟

كنتُ أخطط للسفرِ في هذا الصيف احتفالًا بتخرجي وتتويجًا لسنين السعي في الكلية، إلا أنني عوضًا عن البلدان سافرتُ بينَ القلوب والأذهان، لأعود وقد صنعتُ بعضًا من أعذبِ أيام الحياة وحظيتُ بأصدقاء كتب، وهذا أبلغ الحظ! ذهبتُ إلى الخبر زاخرةً بالتوْق، وغادرتُها محمّلةً بالشوق ..

الحمدُ لله على التجربة، على أشخاصها ومشاعرِها واعتمالاتِها فينا.


الثلاثاء 13 ذو الحجة 1442