السبت، 23 ديسمبر 2017

عمر الجدل



بقدرِ ما ترقبتُ بلوغي عمرَ العشرين، احترتُ فيه، بدا لي بعدَ ولوجي فيه كأنهُ البرزخُ بينَ كل شيئين؛ بينَ جنونِ الشبابِ ونضجِ العقلاء، بينَ الركضِ في ميادينِ الحياةِ لهوًا وبينَ بناءِ المستقبل الذي سيأخذ شكلًا أختارُه الآن ويصعب تغييره بعد ذلك، بينَ بذلِ أقصى جهودي وجلَّ وقتي في بناءِ غدِي المهني وبينَ الركونِ إلى أمي وعائلتي وقضاء أيامي بسلامٍ معهم، بينَ ذاتي التي أطاردها وأناقضها أحاولُ تشكيلها وإرضاءها وبينَ شخصٍ قد يكونُ رفيقي بقيةَ العمر.
كأنّ العشرين عمرُ الجدَل، عمرُ القرارات المصيرية في كل شيء والتخبطات الجليّة من كل صوب، عمرُ الزلّات المقويّة والعواقبِ المؤدبة، عمرُ القلبِ الذي لا زالَ طفلًا يحاربُ شيبَ الأيامِ وترويضَ الظروف.

بالتفكير في الأمر، هل أنا الآن كما تخيلت نفسي قبل عقدٍ من الآن؟ أو خمسة أعوامٍ على الأقل؟ هل التخصص الذي أمضي فيه أغلب وقتي وأنشغل بمهامه ومتطلباته معظم أيّامي هو ما أردت أن أمضي فيه عمري الباقي؟ إن كنتُ أخفقت في نقطة عابرةٍ على خط الزمن فأخذَت مساعِيَّ منحىً مختلفًا عن الذي رسمته لها- فهل أنا الآن أسير وفقَ ما تمنيتُ حقًا؟ هل سأجدني راضيةٍ عني فيما بعد؟
في لحظة من المستقبل سأختلي بذاتي القديمة والجديدة لتقوم بينهما عاصفةُ الكلام، بينَ محاسبةٍ ولوم وعتاب ونبشٍ في جروحٍ كنت قد أغفلتُها زمنًا طويلًا وأخرستُ أنينَ أوجاعها مذ بدا التئامها مستحيلًا. ستنهضُ الجروحُ يومًا ما، ستُفتَح على حنقٍ وحمَى، سأقفُ على غيظٍ من الماضي قد نمَا، لم يوارِه الزمن ولم يحجبهُ العمى. سأسألني لماذا فعلتُ كل هذا؟ وسأجيبني بأن هذا لم يكن أفعالًا أقدمتُ عليها بل أحداثًا ابتلعتني وتداولتني كما كُتب في قدري.
قد أرضى حين تتجلى خيرة الأقدارِ فيما بعد، لكنني آسفةٌ الآن، آسفةٌ لأني وصلت لمرحلة من النمطية تجعلني أشبهَ بآلة، افتقدتُ الشغف وضللتُ الهدف، صارت غايتي الانتهاء من الأمورِ لا الاستمتاع بها والاحتفاءُ بنتائجها، أصبحتُ أنتظرُ مرورَ الأحداثِ كي يتجاوزها ذهني الشاردُ دائمًا، لا لينعمَ بها، كأنَّ كلَّ الممارساتِ قد باتت مهامًا لا اهتمامات، كأنَّ كل أوجهِ الحياةِ قد تجرّدت من ملامحها.


أتمنى فعلًا أن يستيقظَ شغفي قبلَ أن يخطفني عملي، قبلَ أنْ يفلتَ عقدي الذهبي مني، أتمنى ألا يداهمني عمري فينطفئ جوعي للحياة ويشيب قلبي، أتمنى ألا أغيبَ عنّي الآن وأستيقظَ على مصيرٍ لا يُشبهني.


السبت ٤ ربيع الثاني ١٤٣٩هـ

الخميس، 30 نوفمبر 2017

هذا العالم لا يشبهك

أخبريني أمي ..
كيف وسعني رحمُك الصغير
وهذا العالم بوسعِه ضائقٌ بي؟
كيف احتملتِ بكائي الصاخبَ
دونَ أن تفهمي مغزاهُ أو تتوقعي أوانَه،
بينما الأسماعُ هنا
أبعدُ من أن يصلَها صوتي المجروح،
وأقسى من أن يخترقها أنينيَ المبحوح؟
ماذا قد يشدّها إليّ
ولستُ أنا التي تبكي أو تنوح؟
..
هذا العالم بسرعته في المضيّ دوني،
وحركتِه الصاخبة أمامَ سكوني
 لا يشبهُك .. 
لا يشبه حِضنك المتعالي عن كلِّ بؤس،
أو حبَّك الطاغي دونَ لَبس،
لا يشبهُ صوتَك الحاني ولذيذ الهَمْس،
لا يشبُه شيئًا ممّا اعتدتّهُ في الأمس
..
أراهُ يركضُ في تغيُّرِه وأنا بعدُ لم أكبر،
أراه يُبالغُ في تقلّبه وأنا على مسايرتِه لا أقدر،
لا حاجةَ لي بخوضِ السباق
ولا طاقةِ لي بأن أصبِر
..
ثمَّ أنّ هذا العالمَ مُفزِع،
يتغيّرُ كلَّ يومٍ أسرَع؛
كنجمٍ هاربٍ لا يُمنَع،
أو كخارقٍ دائمِ الفوتِ لا يهجَع،
يُبجّلني إذا أحسنتُ ويرفَع،
ثمّ إنْ ضعفتُ يهجرني
كقطعةٍ باليةٍ ما عادت تنفَع،
عاجزةٌ أنا عن الصراخِ
ورافضٌ هذا العالمُ أن يسمَع
..
كنتِ قد عودتني
أن يكونَ قربُكِ بُرءًا حينَ أتوجَّع،
طمأنتني
أنّ هناك من سيسندني حينَ أتعثّر،
وعلّمتني أن طاقةَ قلوبِنا
تجبرُ كلَّ الذي يتكسّر
..
 لكنّني كبرت
ولم يطمئني العالمُ كما فعلتِ،
أو يكن على الأقلِّ كما قلتِ،
غدا غريبًا عليّ،
تزيدُ غُربتُه بمرور الوقتِ،
لا يأبهُ لصوتي أو يسمعُ قصّتي،
لا يقبلُ أسفي أو يتجاوزُ عثرتي،
قاسٍ لا يشبهُ طراوتَكِ،
يطيبُ لهُ أن يحذِّ السير وأنا متعرقلةٌ في الخلفِ وحدي
كأنّما لم أنتمي يومًا له، أو أسعى لنفعه بوجدي وعضدي




الخميس ١٢ ربيع الأول ١٤٣٩هـ

الأربعاء، 4 أكتوبر 2017

لا تحوّل الخطأ إلى منعطف


حينَ حدّثتْك نفسُك بأن تأتي معصية، ففعلت، هل وجدت نفسَك تتقبلّها، تتكرّرها وتلحِقُها بمعاصٍ أخرى؟ حينَ قاومَ جسدُك المنهكُ حرصَك فأقعدك عن أداءِ الصلاةِ في وقتِها، ما الذي أقعدك عنها مرة بعدَ مرة؟ يومَ أحرزتَ أداءً لا يرضيك في عملِك أو امتحانِك، هل سكنتَ للتقصيرِ فأعدتَّه، أو كرهتَه وأبغضتَ نفسَك لقلّةِ إنتاجيتِها فأبعدتها عن هذا العمل؟ ويومَ نسيتَ موعدًا مهمًا لشخصٍ تحبّه، أو نالَ منك الغضبُ فأخطأتَ في حقّه، هل شعرتَ أنّك غيرُ مستحقٍ للعلاقة لأنك لا تعطيها حقها؟

سُمِّيَ الذنب جريرةً؛ لأن الأخطاء عمومًا يجرُّ بعضها بعضًا. هنا تكمنُ آفتُها، فالمشكلة
ليستْ في ارتكاب الخطأ إنّما في الارتياح له للدرجة التي تجعلُ أفعالنا التي نمقتُها تُغشّينا، فنغدو بعيدين عنّا، كارهين لحالِنا.

في الواقع ليسَ متوقعًا من أنفسنا المجبولة على الخطأ أن تكون على صواب دائمًا، لكنّ عليها ألا تحوّل الخطأ الواحد إلى منعطفٍ يُقصيها عن مسارها الذي تحب.

على سبيل المثال؛ قلبُكَ الذي يلومُكَ كلّما أتيتَ ذنبًا أو قصّرتَ في عبادة- حافظْ عليه حيًا، لا تغمرْه في الذنوب إلى الحدِّ الذي يجعلُ تأنيبَه نائيًا عن مسمعِك، لا تدفعه للتبلِّد والتغاضي عنكَ مهما كنتَ عصيًا، أبقِه يقظًا، اتركْ له فرصةَ تنبيهِك كلّما أويت لمضجعِك، أنصتْ إليْه، راجعَ خطأ ما ارتكبت، لا تكن مخطئًا أبيًا؛ لأنّك إن أخرستَ ضميرَك، سترتاحُ لذنبِك، حينها لن تجدَ سببًا للعودة أو دافعًا للتوبة، ستمضي وتعصي غيرَ آبهٍ ولا نادم، حتى تخسرَ علاقتَك بالله دون وعيٍ منك.
الله الذي يسألُك كل ليلة إن كنتَ مستغفرًا فيغفرُ لك، اللهُ الذي طمأنَك بأنَّ الحسناتِ يُذهبن السيئات، اللهُ الذي يقبلُكَ كلّما أتيتَه ويجيبُك كلّما طلبتَه، الله الذي لا يملّ توبتَك حتى تملَّها- لا تقتلْ النفسَ اللوَّامة التي وهبَك إياها.

كذلكَ الأمرُ مع علاقاتِك بالبشر، إذا حدثَ وجرحتَ أحدَهم، ضمّدِ الجرحَ باعتذار، أتبعِ الكسرَ جبرًا والألمَ تخفيفًا، لا تعاقبْ نفسَك بإنهاء العلاقة لمجرّدَ أنك زللتَ مرة.
حتى في عملِك ودراستِك واهتماماتِك، إنْ قصّرت عوِّض، وإن أخطأت صحّح، لا تعتقدْ أنّك لستَ أهلًا لما أنت فيه لمجردِّ أنك أخفقت؛ إنّما عثرةُ اليومِ تعلِّمك كيفَ تسيرُ غدًا.


طبيعتُك البشريّة مجبولةٌ على ارتكابِ الزلات، فمتى زلّت نفسُك، لا تمقتْها، لا تُطِلْ لومَها، لا تعاقبْها بتجريدِها ممّا أحبّته أو اعتادت عليه وانتمت إليه. أصلحِ أخطاءَك عوضًا عن الهربِ منها، أو على الأقل، اكتفِ بها ولا تستزِدْ منها حدّ اللامبالة.


الأربعاء ١٥ محرم ١٤٣٨هـ

الخميس، 21 سبتمبر 2017

بينَ عامين



أحيانًا تكونُ الأحداثُ أكبرَ من أن تسعَها مشاعرُك، أبعادُها أوسع من أن تلمّها، تفاصيلُها معقدة بصورةٍ لا تسمحُ لكَ باستيعابها، تتتابَع سريعًا أو تتسابق. تمضي في كلّ اتجاهٍ وأنت في المنتصف، معرَّضٌ لكلّ دواعي الفرحِ والترح، مترنّحٌ بينَ الاحتفاء والغضب، مخمورٌ بالحياةٍ غارقٌ في النَّصَب ..
هل يكون لنا سوى عمرِ الأحداثِ عمرٌ آخر نراجعُ فيه ما حدث؟ نستقيه على مهل، نتأمّلُه، نتشرّبه، ننشتي به أو بانتهائه؟

العامُ الهجري ١٤٣٨ كان مزدحمًا بالنسبة لي، أغدقَ عليّ بوفيرِ التجارب التي لا تشبه بعضَها، بدءًا بالكتب التي قرأت، مرورًا بالمدنِ التي زرت، الموادِّ التي درست، الأهدافِ التي حققت والمهاراتِ التي اكتسبت، انتهاءً بالعقول التي التقيت، باختلاف عمقِ علاقاتي بهم.
بدا الحديثُ إلى الغرباء ممتعًا جدًا، أن تتبادلَ الأفكار وتناقش الآراء مع شخصٍ لا يشبهك في دينك أو جنسك أو عمرك أو مجتمعك أو أيٍ من عالمِك .. فما إن تنطقُ العقولُ تغدو كتبًا مُشرعَة، باطّلاعك عليها تتسعُ آفاقُك وتتغير مفاهيمك.
دائمًا هناك شيءٌ لتتعلمه، شيءٌ لتعملَه وشيءٌ لتشعر به. أظن خلقَ الحوار مع أناس لم تعتد مناقشتهم يجمع بين ذلك كله. ستقعُ على أناسٍ يماثلونَك ويخالفونك، وبقدر الاختلاف الذي تتعرض له ستفهم نفسَك أكثر، فكلّ ما حولَك يدلّك إليك. قد تكون في غفلةٍ عن نفسِك، حتى تخوضَ حوارًا مع شخصٍ يماثلك الطباع، بينما يختلفُ فِكره عنك كل الاختلاف، حينَها ستراه يتحدّث بنبرةِ صوتِك، يجادل بأسلوبك، يتمسّك بعنادِك، ويخطئ أخطاءَك، ما يجعلُك تنتبهُ لعيبِك فتصلحُه. وآخر بعكسِ طبيعتِك تمامًا، إلا أنّ له نفسَ المنطقِ الذي تفكر به، فتجدُه أشجعَ منك، يقول ما أوشكت قولَه لولا خوفِك من عواقبه، ينطقُ عفوًا بما أردت الإفصاحَ به لولا حيائك، كأنّما يتحدّثُ بعقلِك ولسانِه، كأنّه أنت في صورةٍ أخرى. آن ذاك .. لن تملكَ خيارًا آخر سوى الوقوع في حبِّه والاحتفاء به في عمرِك القادم.

ممتنّة -بحمد الله- لكوني التقيت بهذين النوعين خلال العام، ما دفعني لإعادة النظر في طباعي وأفكاري  وصياغتها من جديد. ممتنّة للفرق التطوعية التي شاركت فيها بشتّى توجهاتها: إكسير لتوعية المجتمع، اليوم العالمي للإعاقة، غِراس للترحيب بالمعتمرين والهلال الأحمر لإسعاف الحجيج. سعيدة برحلات السفر التي خرجتُ إليها باختلاف رفقائها والأنشطة الجديدة التي مارستُها. ممتنّة لكلّ الاختلاف الذي غيّرني .. لكلّ الأشياء التي لم أسعَ إليها أو أنتظرها، لكنّ الله أكرمني بها قبل أن أسألَه إيّاها .. راضية بكلِّ ما فات ومطمئنّة لكلِّ ما هو آت.



الخميس ١ محرّم ١٤٣٩هـ

الأربعاء، 6 سبتمبر 2017

شهداء العلم وتجار الوهم


الإسكندرية، مصر- ٤١٥م
عُرفت الفيلسوفة (هيباتايا) بأنها أولُ امرأة يخلّد التاريخ اسمَها كعالمةِ رياضيات، جالت تبحث عن العلم ثم جاءت به إلى مصر. اعتكفت على تعليمِ طلابِها الفلسفة، فجذب علمُها الملموس الناس حولَها؛ للاستماع إليها والأخذ بقولِها. ما جعل رجالَ الكنيسة يلومونها على صرفِ الناس عن الدينِ والوهمِ الذي يبثّونه في عقولهم، فحرّضوا أتباعهم ومن يولونهم الحب والتصديقَ التام بقتلها. وهكذا تتبّع جمعٌ من أنصار الجهل أيقونةَ العلم (هيباتايا) بينما كانت تسيرُ عائدة من ندوتِها العلمية، ربطوها وساروا ساحبين جسدَها على شوارع الإسكندرية، حتى ماتت فسلخوا ما بقي من جلدها ثم أحرقوها.


كابول، أفغانستان- ٢٠١٥م
اعتادت النساء التردد على المُلّا الذي كان يعمل في الدجلِ والسحر مقابل المال، فكرهت (فرخنده) -التي نالت نصيبًا من العلم- حالهن، ما جعلها تقفُ لتنبيههن بخطأ اعتقادهن، وردع الملا عن فعلِه، لكن الملا حين عجز عن إخراسِها قررَ أن التخلصَ منها هو السبيل الوحيدُ للإبقاء على مصدر رزقه، فأطلق صوتَه عاليًا متهِمًا (فرخنده) أنها أحرقت المصحف. الشيء الذي هيّج العامّة -الذين ينسبون أنفسهم لدين لا يفقهونه- على الإضرار بـ (فرخنده) انتقامًا للمصحف الذي كانت تحفظه ولا يحفظونه! فانهالوا عليها ضربًا وركلًا حتى ماتت، فمثّلوا بجثتها وأحرقوها.


مهما اختلف الدين والزمان والمكان ستعيدُ الأحداثُ نفسَها ما دامَ الوهمُ قائمًا، فالوهمُ هو حِرفةُ تاجرِه، متى كشفتَ زيفَه سيُوهِمُ الناسَ أنك مستحقٌ للموت، كي يقتولك وتبقى تجارتُه حيّة. وغالبًا ما يستخدم غيرة المرءِ على دينه، فيثيرها ضدّ شتلةِ النورِ من علمك التي أزعجت ظلامَه المتفشّي وجهلهُ المستثري. مع أنّ الإسلام كآخر الأديان السماوية وأصحّها، حرّم العرافةَ والتنجيمَ وقراءة الكفّ منعًا لأن يصدق الناسُ بالوهم ودرءًا لأن يتاجر المحتالون بالدّجل. في المقابل، أيّد العلمَ وجعلَه معيارَ تفضيلٍ في المناصب، فحين اختارَ اللهُ طالوتَ ملكًا كان السبب أنهزادَه بسطة في العلم والجسم”. لذا لن يمقتَ العلمَ والمنطقَ عالمٌ بالدين، إنّما جاهلٌ يدّعي الدين.

في مشهد من فيلم PK، كان البطل على صدد شراء مجسمٍ لإله، فتساءل: إن كان المجسم الصغير سيستجيب لدعائي ما الداعي لشراء المجسم الكبير الذي يفوقه سعرًا؟ ألا يمثّلُ كلاهما نفسَ الإله؟
نفس السؤال قد أطرحُه على من يقرأ القرآن على الممسوس -زعمًا- مقابل المال، لمَ قد يجدي ذلك نفعًا معك بينما لا يجدي نفعًا مع ذويه حين يقرؤون عليه؟ ألا يقرأ كلاكما كلام الله نفسه؟

لعلّ مجتمعاتِنا بحاجة لأن تُمنطِقَ التصرفات وتقيسَ مدى عقلانيتها عوضًا عن أن تُرجئ كلّ جديد إلى الغيب المريب الذي تخشاه ولا تحاولُ فهمَ ماهيتِه.


الأربعاء ١٥ ذو الحجة ١٤٣٨هـ

الأربعاء، 23 أغسطس 2017

الصعوبات ليست للمباهاة


حدثَ مرةً أنْ سعى شخصٌ نحوَ حلمِه ثمّ فشل، فقالَ لهُ صاحبه بلغةٍ مواسيةلا عليك، الفشلُ أوّلُ خطواتِ النجاح.”
كانت عبارتُه بليغةَ الوقعِ، فتفشّت بينَ الناسِ كوباءٍ لا شفاءَ منه، كطوفانٍ فكريّ لا صدّ له، كحُكمٍ منزّلٍ لا اعتراضَ عليه. صارَ الواحدُ منّا لا يُعدُّ ناجحًا إلا إذا أسبقَ نجاحَه بفشلٍ يتغنّى به أمامَ الجمعِ كأنموذجِ إصرار!
الجمعُ الذي باتَ يُقدّرُ المعاناةَ أكثرَ من الإنجازِ الذي عقِبَها، الجمعُ الذي يقيسُ قوّتَك بقدرِ الصعوباتِ التي تخطّيتَها حتّى تصل، لا بحجمِ الهدفِ الذي حقّقت أو الفائدة التي قدّمت.
حتى اضطرَّ الواحدُ منّا لأن ينبش في مسيرةِ أيّامه كي يجدَ صعوبةً تعثّرَ بها، ثمّ ناضلَ، وقفَ مجددًا، استعادَ رباطةَ جأشِه، نفضَ الألمَ عنْ عاتقِه وتابعَ سيرَه. مع أن هذه الصعوبة في واقعِ الأمر لم تكن أكثرَ من حجرٍ على قارعةِ العمرِ، لم يلتفتْ إليها ولمْ تتكلّف هي شدّ انتباهِه.

قد يولدُ الأملُ من رحمِ الألم، لكنّ هذا لا يعني ألّا أملَ بلا ألم! قسوةُ الأيامِ واحتدامُ الظروف في وجهِ المرءِ المناضلِ صعبةُ التّخطي بلا شكّ، لكن ماذا عن مناضلةِ الشخصِ نفسَه؟ عن قدرةِ الشابِ المرفّه الذي أوتي كلَّ سُبل العيشِ على مقاومةِ جسدِه الذي اعتادَ الراحة والشروعِِ في العملِ، ليبني ذاتَه بما يكفي أن يخوضُ الحياةَ غيرَ متكّئٍ على أبويه الذين لم يُقصّرا في تدليلِه.
لا عدوَّ ألدُّ على الإنسانِ من نفسِه، نفسه التي تحدّثه بالراحة وتزيّنُ لهُ استهلاكَ الماديّاتِ الوفيرةِ أمامَه بشكلٍ أكبر. نفسُه التي باتت هشّةً لأنها اعتادتْ على أن تكون مقبولة مالكة، ستتهشّمُ متى تعرضت للرفضِ أو الفقدِ. نفسهُ التي لم تعرفْ سوى النجاح، سيكونُ الفشلُ ثقيلًا قاسيًا عليها، مهما كان ضئيلًا في حقيقتِه، وقلبه الذي تقلّبَ في وثيرِ الفرحِ سيفتُك بهِ قليلُ الحزن.
فمتى استطاعَ التغلبَ على ما يعتلجُ داخلَه، وأعادَ بناءَ صلبِه، عُدَّ قويًا.

لا ريبَ في أنّ مسيرةَ الشخصِ الغنيّة بالإصرارِ مدعاةٌ للتقديرِ أكثرَ من ذلك الذي لم يشْقَ كثيرًا، لكنّ هذا لا يُنقصُ من نجاحِ الأخير، فلا داعي لتلغيمِ السيّرِ الذاتية بصعوباتٍ مهولةً تجعلُ قارئها يشعرُ بهوانِه وضعفِه وفقرِ أيّامِه.
بالنسبة لي، أعتقد بأني لو قرأت سيرة شخص حياتُه تشبهُ حياتي العادية وقد اخترقَ عاديّتَها بإنجازٍ عظيم، سأحصلُ على إلهامٍ أكثر من ذلك الذي تُحدِثُه قصص الإصرار الغنّاءة.


وُجدت الصعوبات كيْ تُؤخرّنا قليلًا، فنبلُغَ أهدافَنا في الوقتِ الأنسب، لمُ تُوجد للمباهاةِ بها.



الأربعاء ١ ذو الحجة ١٤٣٨هـ

الأربعاء، 9 أغسطس 2017

سأكبر وأندم

بعدَ عمرٍ من الآن، سيكونُ لديّ الكثيرُ لأندمَ عليه، أقساه: ندمٌ على شيءٍ لم أفعلْه.

سأندمُ على المراتِ التي جاءني فيها طفلٌ يريدُ اللعب،
فلمْ أستجبْ له
سأندمُ على الأيّام التي رأيتُ خلالها أمي جالسة بمفردِها،
فاتجهتُ صوبَ غرفتي
عوضًا عن أن أجاورَها وأحاكيها
سَأندم على المغامراتِ التي كانت مشرعةً أمامي
فلم أخضْها
والفرصِ التي انهالتْ عليّ كأوراقِ الخريفِ
دونَ أن ألتقفَها
سأحِنّ لكرسيّ الذي تركتُه خاليًا حولَ المائدة
لأني ممتلئةٌ طعامًا أو إنهاكًا أو غضبًا
سأندمُ على الكثير من هزيلِ الأمور
التي تحدثُ كل يوم،
فلا ألتفتُ لها بقلبي أو فكري أو أيٍّ من حواسّي
سأندمُ لأني ضيّقتُ نفوذَ الحياةِ إلي
لأني لم أكنْ البحرَ لنهرِها
ولا القاعِ لبئرها
سأندمُ لأنها كانت وفيرة وكنتُ فقيرةً للاحتفاء بها.

...

سأتحاملُ على الخوفِ
الذي انتصبَ سدًا غليظًا لا يراهُ سواي- 
بيني وبين ما أوشكتُ آتيهِ
كالخوفِ من ردودِ الفعل
الذي حبسَ القولَ في حنجرتي
فاختنقتُ بصوتي ودمعي
وإحساسي الذي كانَ قابَ قوسين أوْ أدنى من الركود
الخوف من من فواتِ الأوان الذي صيّرني طريدةَ الزمان،
أركضُ خلفَ مستقبلٍ لا أراه،
أحاولُ القبضَ على حلمٍ لن يطير،
وغدٍ لا ريبَ في قدومِه!
والخوف من التحدي
الذي أحالني شقرا
وكلُ الناسِ خيولٌ واحدةُ الصهيلِ.

...

سأتخفّف من حنقي على زماني ومجتمعي،
لأغدو مثقلةً بحنقي عليّ
على جأشي الذي حلّ رباطَه عندَ أولِ خيبةٍ،
فلمْ يقاوم .. ولم يحاول
على عقلي الذي سمعَ فصدقَ وسلّم،
لم يمنحني حقي من التجريبِ والتمكين
سأمتلئ حنقًا على حواسّي
التي عجزت أن تواري حزني في حضرةِ أمّي،
فأوجعَها وجعي أكثرَ ممّا أوجعني.



الأربعاء ١٧ ذو القعدة ١٤٣٨هـ

الأربعاء، 26 يوليو 2017

بين كرامتي وحبي


أُعاني تضاربًا عنيفًا
بين كرامتي وحبّي

لا أرضى عودتي
ولا يقوى على البعدِ قلبي

أنا الجانيةُ وأنا الضحيةُ
فليلطفْ بي ربي!

أراني بينَ نارين
وهذي المشاعرُ لا تكفّ تحترِق

بالي تمرّدَ ما عاد تحت إمرتي
وذهني قد سُرِق

صارَ الزمنُ حادًا ثقيلَ الخطى
أينما مضى في الفؤادِ اخترَق

وحالي عسيرةٌ عليّ
تسري كيفما اتّفَق

ناظري يراكَ في كلِّ الوجوه
كأنّه ما شهدَ غيرَك وما رمَق

عطرُك حاضرٌ في كلِّ البقاع
وأينما هربتُ عنه بي يلتحِق

ما عدتُّ أنا أنا
ولا عادت راحتي بلاكَ تتسِّق

عمياءَ القرارِ
أهتدي بمشاعرَ كلما حاولتْ اتفاقًا تفترِق

ما زالَ قلبي حالمًا بك؛
كنائم على الغيمِ لمْ يفِق

ذكرَك مرّات ومرات،
أعادَ كلَّ ذكرياتِك،
لكنّ كبريائي لم يرِق

وهذا الذي تراهُ مني قناعُ تناسٍ
ارتديتُه فلمْ يلِق

كأنّك صفحةٌ من العمرِ عصيّةٌ
لا تنطوي .. لا تنطبِق

كأنّ اسمَك إذا ذُكِرَ جلمودُ صخرٍ
لا يتنحّى .. لا ينفلِق

أعجزُ اجتيازَه
أبقى أسيرتَه والسمعَ أسترِق

أستعيدُ كلَ ما كان منكَ
وفي صنعِ المواقفِ المرجوّة بيننا أنطلِق

واللهِ ما عدتُّ أنا أنا ..
عفى اللهُ عن حبٍّ عتيٍّ
كلما حاولتُ مضيًا عنه استبَق

وشدَّ أزرَ قلبٍ
عاشَ على ذكراكَ طويلًا .. ما نفَق

الأربعاء ٣ ذو القعدة ١٤٣٨هـ
سويسيرا- انترلاكن
يوم كان يجدرُ بي حضور المقابلات الشخصية لمسابقة اقرأ

الثلاثاء، 11 يوليو 2017

ما حيلة هذا القلب؟


السعادةُ التي أشعرُها معك ليست غريبةً علي
في الواقع، كل هباتِ الحياة تستحقّ السعادة
بما فيها أنت
تعجبني تناقضاتُك الظرفيّة؛
كصوتك وصمتِك
صخبك وهدوئك
ضحكتِك وحكمتك
اقترابك وغيابك
كأنّ جميعَ ما يصدر منك مُحاكٌ ليلائم جميع ما أريد
وكل مبادراتِك موقوتةٌ لتوافقَ تقلّباتي

...

لعلّ هذا كلّ شيء
ولعلَه بعضٌ مقتضب من كثيرٍ لا حصرَ لي به
مع ذلك،
لستُ متأكدةً من كوني أحبّك
حين سألتُك،
سبقت ابتسامتُك إجابتَك
نظرتَ باتساعِ عينيك إلى حيرةِ عيني،
ثم أطلقت قولًا
لغتُه سَرد
وقعُه أغنية
وإحساسه شِعر
قلتَ: الحبّ ألّا أثقَ من كوني أتنفس حتى أشتمّ عطرَك،
أن تكوني مولدَ يومي ومسكَ الختام
أن تكوني حلمَ يقظتي ورؤيا المنام
أنْ تحقّقَ لقياكِ بيني وبين نفسي السلام
أن تكوني صغيرتي، ومدينتي، وعزلتي عن كل الأنام
أنْ تكوني الرَّوْحَ والسكن والمرام

...

ولأنّ من يسمع قولك يتخدّر
أزعجني أنّي لم أتأثر
فاكتفيتُ ابتسمتُ
ظننتَها ابتسامةً خجلى
وكنتُ أعلمُها تسترًا على حديثٍ قد أقفر

...

يؤسفني أنّي لا أجيدُ الحب
لعلّ قلبي أصغرُ من أن يُحِب
أو لعله خائفٌ من قادمِ التعب
مهما أبلت اجتهاداتُ اللب
تبقى تبعاتُ العلاقةِ في جوفِ الغيب
فليتَ شعري .. ما حيلةُ هذا القلب
سوى أنْ يُطبقَ بابَه ويتوشّحَ الصُلب؟

...

قلتَ أنّي مولدُ يومِك ومسكُ الختام
وأقولُ إن قلبَك أشجعُ من قلبي في خوضِ الهيام
كنتَ لطيفةً من لطائفِ الأقدارِ وهذا فصل الكلام
تصبح على خير
سواءً  كان الخيرُ معي أو بعيدًا عنّي
فلتكن دائمًا على خيرِ ما يُرام



الأربعاء ١٨ شوال ١٤٣٨هـ

السبت، 24 يونيو 2017

فَرْحَة


تردّدت على مسمعي في الأعياد الماضية عبارةالعيد لا يشبه العيد”. يلجأ الناس لتشبيه الشيء المموّه بالشيء الصريح من باب المحاكاة، كي يستطيعَ العقلُ تخيّل ما لا يعرفه وفقًا لما يعرفه، أوْ من أجلِ المبالغة في الوصف وتجميل صياغة الموصوف.
ماذا عن العيد؟ ليس بالحدث الغريب الذي يترك على النفس أحاسيس جديدة تحتاج لأن تُشبّه بما هوَ أكثر صراحةً كي نفهمها، ولا هو بالشيء العاديّ الذي يستدعي لغةً منمّقةً لتُلبسَه حلّةً أحلى.
هوَ رمزُ الفرح، كلّ الأيام السعيدة باختلاف أسباب السعدِ فيها سنقول عنها: كأنّها عيد. فماذا حلّ بعيدنَا كيْ يتجرّد من ثوبِه القشيبِ ووقعِه الفريد؟
من الذي ألبسَه ثوبَ الحدثِ الرّتيب غيرِ الجديد؟
لعلّ دواعي الاحتفال قدْ كثرتْ فأغفلتْ فرحتَنا بالعيد،
أوْ لعلّنا غيّبنا طقوسًا كانت تجعلُه داعيًا للتّمجيد،
حتى غدا وقعه الأخّاذ باهتًا عرضةً للتّبديد.

شأنُ العيد الاحتفال،
شأنُ النّفسِ الاحتفاء،
وشأنُ الفرحِ أنْ يبلغَ عنانَ السّماء.

لا تتركوه
في متناولِ العاديّة

شيّعوا البيوتَ جمالًا،
حضّروا حلوى، كعكًا وهديّة

أترعوا الأجواء
بدواعي بهجةٍ ملموسةٍ ومعنويّة

استمتعوا
وانتشوا بحريّة

تفككوا
من قيود العامِ النمطيّة

ليُحدثِ الأطفالُ فوضى
وصخبًا ومشاكساتٍ نديّة

لتنطلقْ في الهواء أهازيجُ احتفاءٍ
وتصدحَ أغنيّة

هذا العيدُ برقيّة

خذوهَا بكلّ ما فيها
من مسرّاتٍ سخيّة

أفسحوا لها سبيلَ الوصولِ
لكلّ أبعادكم القصيّة

لتنضخوا فرحًا
ومشاعرَ بهيّة

لتُطربوا ضحكًا وحبًا
وتبيت القلوبُ نقيّة

هذهِ هبةُ اللهِ لكم
فأجزلوا الاحتفالَ بالعطيّة


سرّحوا طفولةَ أرواحكم العذبة، أطلقوا هتافاتِكم وضحكاتكم الصخبة، جودوا بما حوتْه أنفسُكم من رَوْحٍ ومحبّة، بادروا من حولكم بإطراء أو هِبَة، وتأمّلوا إشراقة ملامحِهم بنورِ لُطفِكم.

٢٩ رمضان ١٤٣٨هـ