الاثنين، 22 أغسطس 2016

خُطوةٌ بالعلمِ وللعلمِ



إنّما العلمُ نهرٌ يُنهلُ منهُ، وخيرٌ من النهلِ أن تترعَ النهرَ!

قبلَ ميلادِ الصيفِ واختفاء الحركة على كفّ الجامعة، قبلَ أن يشرعَ الفراغُ في فردِ سطوتِه على اتساعها وقبلَ أن يتسللّ المللُ إلى فضاء الإجازة فيملأها- كنت أفكر بسبلٍ لإحياء صيفي. لم أرد له أن يمرّ عبثًا، أن يمضي راكدًا باهتًا ثقيلَ الخطى، يبترُ من العمرِ ولا يعطيه. فانضممت لدورة بحث تشغل الربع الثالث منه، ليس لشيء سوى أنني أريدُ خوضَ تجربة ذاتِ فائدة، فكانت أكثر من ذلك بكثير ..

...

هيَ ستة أسابيعِ مضتْ كأجملِ ما يكون، مضت باندفاعِ الشهبِ وعذوبةِ السكون، مضت لذيذة حُلوة بكلّ ساعاتِها والغضون.

جمَعت على شطّ العلمِ عقولًا شتَّى، آختْ بينَ قلوبٍ لمْ تكن لتلتقي البتَّة، ملأتْ بالمعرفةِ ألبابنَا والوقتَ، فعلًا .. كم كانتْ ثريةً تلكمُ الستّة!


صَنعتْ من خواطرِ الأذهانِ أبحاثًا، ومنْ خلجاتِ السؤالِ أحداثًا، أجرت على أيدينا من العلمِ ميراثًا، فروتْ شغفًا .. أينعت فِكرًا وأخرجتْ روّادًا، مقسِمةً ولا يرضَى القسمُ أحناثًا: أنَ أنفُسًا قوتُهَا الإدراكُ لا تستحيلُ أجداثًا.


سنغدُو في غدٍ علماء، نحفظُ نفسًا ونُبرئُ داء، سنخطُو على شطِّ السماء، نقفُ على ناصيةِ العلياء، سنترُكُ أثرًا وضّاء، لا يرَضى خُفوتًا أو جلاء، سنكونُ للعالمين دَواء، ونُغدقُ على النّهى العلمَ حدّ الرواء.

...

مرّت الأيامُ ثرية أنيقةَ المُضي، سريعةً كعدوٍ خفِي، قيّمةً كنبأٍ جلي، جميلةً كقدرٍ بهيّ.
التقيتُ خلالها بنُخبةٍ من طلاب الطب وأساتذته، من أتراع السعودية باتساعها. أناسٌ راقني الحديث إليهم والسفر بين عقولِهم. كلمّا أنصتّ إليهم ازدادَت آفاقي اتساعًا ومداركي ارتفاعًا، وكلمّا أسمعتُهم وجدتُ لفكري وقعًا وصدى يحرّكُ الأسماعَ. جرت بيننا الكثيرُ من الحواراتِ شيّقة السير نيّرةِ الأثر، لها على اللبِّ انبلاجُ الشمسِ ووقعُ المطر، تنبّهه، تُثريه، تُوقظُ فيه اهتمامًا قد همَد، تشعلُ حماسًا قدْ خمَد، تنتشلُ فهمًا خاطئًا وتغرسُ نورًا بعيدَ الأمد.
قرّبتنا المواقفُ والطُرف، كنّا متشابهينَ في العمل، متكاتفين في المِحن، نُجيدُ المؤازرة ومحوَ الألم، نصنعُ من قلبِ الكَبَد ضحكًا وهزل، نقيمُ من تعثّرَ نُصلحُ الزلل ونخلُقُ المتعةَ كلّما أوشكَ أنْ يُطلّ الملل.

انتهتْ الدورّة وقدْ علّمتني كيف أُتقنُ البحثَ العلمي، وأخرجتني شِبه باحثة؛ حيث أتمّ كل من شارك بحثًا في المجال الذي يُحب. كم بدا الشعورُ بدوري في هذا الميدان منشيًا، أنْ تكونَ لي يدٌ في تحريكِ العلمِ خطوةً للأمام، أنْ أثبتَ فكرةٍ ستغدو يومًا ما حقيقةً تُقال ونصًا يُتخذُ بالحسبان، أن أرحلُ وقدْ تركتُ علمًا تتوارثهُ وتقوّمه الأجيال.


ممتنّة جدًا للطيفِ التجربة، لأيامِها التي انسابت خفيفةً رغمَ ما بهَا من جهد، لأُناسها الذين أسعدتني معرفتُهم أيّما سَعد .. أذاقتني بحقْ لذيذَ السّعي وطيّب الجني؛ فبقدر ما كانت شاقّة أبهجتني، وبقدرِ ما شغلتْ من وقتي أمتعتني.


فعلًا .. الحمد لله على التجارب الجديدة والمعارف الوليدة والتليدة، الحمد لله على رزقٍ يفوقُ تطلعاتِنا.

...


الإثنين ١٩ ذو القعدة ١٤٣٧هـ
بعد انتهاء RSS في مدينة الملك عبد العزيز الطبية.