الاثنين، 9 نوفمبر 2020

قابَ قوسين أو أدنى


يُحكى أن لاعبةً ماهرة، كانت ابنةَ الحظِّ والسعي، ألِفت الفوزَ وألِفَها، حتى صارَ وطنًا آخرَ لهَا،

ولقبًا لامعًا يلاحقُ اسمَها أينما نُطِق.

في إحدى الجولات، أخذتْ تقفزُ بخفة من تصفيةٍ إلى أخرى، فعوّل الفريقُ عليها  وراهن الجمعُ كلُّ الجمعِ على فوزِها، حتى جاءت التصفية النهائية ..

ستروي أخيرًا ظمأ مساعِيها الشاقّة بالنيل، تتوّجُ طرقَها الطويلة بالوصول، وأحلامها العطشى بالحصول.

فازتْ .. خيّبت الآمال، آمالَها هيَ قبلَ الآخرين، ولعلَّ أكثرَ من أبدى استياءَه هو  وجهُها الذي انشقَّ عنها، فتمرّدَ ولبسَ ملامحَ محبطةً آسِفة، على الرغمِ من محاولاتِها  المنهكة

بالابتسام، كأنّما يصرُّ التعبيرَ عن حَنَقِه على كلِّ التوقعاتِ التي بُنِيتْ بسقفٍ عالٍ يناطِحُ الأحلام، فأثقلَت كاهلَها، لينقضَّ السقفُ عليها الآن مدوّيًا محطّمًا داخلَها.

 

كلُّ هذا فقط لأنّها كانت ثاني أفضلَ لاعبة وليست الأفضل، فانجرفتْ تنقمُ على  المسافةِ الضيّقة جدًا التي تفصلُ بينها وبينَ الفائز الأول، تحسِب كم كان ضئيلًا  حقيرًا هذا الفتقُ الذي عليها رتقُهُ لتغلبَه .. كانتْ قابَ قوسين أو أدنى من أن تكونَ مكانَه، لولا القدرُ الذيْ اختارَه دونَها.

طفِقَ عقلُها يخصفُ من ورقِ الوهم ليواري الحقيقة, انشغلَ بافتراض ما كان سيحدث لو أنها الأولى، وغيّبَ عنها أنها وصلتْ.

 

لسوءِ حظّها أن عدسةَ التصوير تترصدُها، فشهدت ووثّقت إحباطَها أغلفةُ المجلّات،  مستهلّات الصحف، عناوينُ الأخبار، وأعينُ مستخدمي الشبكات، لتبقى وصمةً على  مرِّ العصور

"عقدةُ الفائز بالفضيّة". الفائزُ الذي لا يعدّ نفسَه فائزًا لأنه لا ينفكّ يقارنُ نفسه بالمتنافسِ الذي

سبقه، ليسَ أول من وصل ليكونَ البطل، ولا ثالث الواصلين ليواسي نفسَه قائلًا "وصلتُ على الأقل"، إنما هو في برزخٍ بينَ البينين يجلدُ أداءَه  ويندبُ حظّه.

 

 

ماذا عنك؟ ماذا عنّي؟ ماذا عن كلِّ الذين كانوا مركزًا ثانٍ في موطنٍ ما، لكنّهم نجوا من عدساتِ التصوير ومصائدَ الإعلام، فلمْ تلحقْهم الوصمة؟

 

كالطالب الذي أوشكَ يكونُ الأول على دفعتِه لولا السؤالُ الوحيد الذي أخفقَ فيه،  فسمحَ لغيرِه أن يتفوقَ عليه، كم تظنّه حانقًا على هذا السؤال؟ عثرةِ الحظِ الطفيفة  التي نحّته عن القمة؟

ليس لشيءٍ إلا لأننا نقدّرُ الأبطالَ ونغيّبُ من سواهم، فباعدنَا بتحيّزنا بينَ الناسِ وبينَ  رضاهم.

 

نحنُ قومٌ قبلتُنا القمّة، اعتدنا أن نحملَ على عواتِقنَا أحلامنا وآمالَ من حولنا، لنهرعَ  بها نحوَ الوصول، غابَ عنّا أن هذا الكمَّ الهائلَ من الآمالِ قد يغدو ثِقلًا يقيّد كواحِلنا  فيؤخرُنا عن

المضيِّ بدلًا من أن يدفعنا، بتنا نركضُ في مضاميرِ الحياةِ هلعين جوعى، لا يُسمننا ولا يُغنينا أيّ مبلغٍ دونَ الأعلى، نلهثُ وراءه، نوغلُ بحثًا عن أصعدة شتّى ومساحاتٍ ضيّقة قد تتيح لنا أن نكون الأوائل فيها.

 

لا عجبَ .. فقد كبر الواحدُ منا وطُلب منه أن يفعلَ ما لم يُفعلْ، وينالَ ما لم يُنَلْ

"حتى يراه الجمعُ أول طالعٍ .. ويروا على أعرافه المنديلَ

هذا زمان لا توسط عنده .. يبغي المغامر عاليًا وجليلًا"*

 

لم يخبرونا ما خطأ التوسطِ؟ ما عيبُ أن نكون ثانيًا أو ثالثًا؟ ما العيب في أن نأتي تاليًا؟ غابَ عنهم وعنا أن أرضَ الوصول رحبة واسعة، وأن كل بلوغٍ إليها انتصار، وإن لم نكن أول الواصلين.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أحمد شوقي


كُتِب في ٢٢-٨-٢٠٢٠

الخُبَر