الاثنين، 4 نوفمبر 2019

الجمال والطفولة


مَضى على بداية سنة الامتياز شهران، صرتُ أشبه في تصرفاتي والتزاماتي الطبيب المستجد أكثر من الطالب، ألِفتُ النظام الطبي وتعريجاتِه، صارَ تعاملي معه سهلًا وسلسًا بعد أن كان معقدًا يستغرق مني حولَ نصف الساعة لإتمامِ أمر واحد. العيادات غدت مكانًا مريحًا يشبه المنزل الذي أعرف أين أجد ما أحتاجه فيه دونَ الحاجة لسؤالِ أحد أو الوقوف مترددة محاولةً التخمين والافتراض، صارت يدي تعرف ما عليها فعله بمجرد بدء العيادة.
أنهيت التدريب في قسم النساء والولادة، حضرت لحظاتِ الميلاد الرقيقة وساعات التلهّف الممتعة، تجسّدت لي المشاعرُ الضخمة التي يمنحها وصولُ كائن صغير لوالديه بكلّ عذوبة.
ومع أنني لم أكتفِ من لقاء الحوامِل والمواليد إلا أنه قد حان الوقت للقاء أشخاصٍ جُدد باهتمامات وتوقعات مختلفة.

سمعتُ كثيرًا عن الجراحة والجرّاحين، عن طبيعة العمل الممتعة والمنهكة في آنٍ معًا، عن نمط الحياة الذي يُقضى ركضًا بين الجناح والعيادات وغرفة العمليات من مطلع الشمسِ حتى مغربِها، عن مصيريّة الخطوات التي تُتّخَذ خلال العمليات الجراحية والنتائج المرضية التي تتحقق بسببها، عن قضاء الحياة في المستشفى مقابل تحسين حياةِ المرضى.
حسنًا، يبدو الأمر عظيمًا ويعطي انطباعًا عمليًا متينًا، لكنني أفضّل أن تطغى أيامي الهادئة على الأيام الهائجة. الأيامُ المزدحمة بالعمل تروقني جدًا وتضفي على روحي الكثير من الرضى بنهاية اليوم، إلا أنني لا أميلُ للركض، أحبّذ القيام بأعمال متقنة في بحبوحةٍ من الوقت على أن أهرع من عملٍ إلى عمل في دهليز ضيّق من الزمن. لذا فقد مِلت خلال التدريب الإلزامي بقسم الجراحة للالتحاق بأحد الأقسام الفرعية، وكانت جراحة التجميل هي الخيار لشهر سبتمبر.

خلال هذه الفترة تبيّن لي أن ما نكتسبُه من التدريب ليسَ العلمَ فقط، بل أكثر من ذلك بكثير. نحن لا نتدرب على العملِ وحدِه، إنما على ممارسةِ الحياة العمليّة، فنكتسبُ من خلالها مهاراتٍ لم يَدُرْ بأذهاننا يومًا أننا قادرون على ممارستِها فضلًا عن أن تصبح عاداتٍ يومية نفعلُها دونَ أن نتكلّفها.
بالنسبة لي، فقد قضيتُ ستةَ أعوامٍ دراسية أجاهِدُ نفسي وأتعارك مع محاضرات الساعة الثامنة صباحًا، كانَ النوم أحبّ إلى قلبي من أي شيء، ومغادرتي الفراش تشبه مغادرةَ روحي لجسدي، ثقيلة جدًا، مرهقة جدًا، وحتميّة للغاية! لا أكاد أذكر يومًا استيقظت فيه خفيفةَ البال دونَ تفاوضات مع المنبه واقتراض عدد لا نهائي من الغفوات، حتى أفزع أخيرًا من مداهمة الوقت وأقفز من السرير محاولةً إدراك ما يمكن إدراكه من الصباح والتزاماتِه. لذا كانت أكبر وأبرز عاداتي السيئة التأخرُ عن محاضرة الساعة الثامنة، وكنت كلما تخلّصت منها عدت إليها من جديد.
حتى بدأت التدريب مع الجرّاحين، ثلاثة أيام في الأسبوع تُقضى في غرفة العمليات، علينا خلالها الحضور من الساعة السابعة أو السابعة والنصف صباحًا كحد أقصى لتجهيز المرضى وإنهاء إجراءات ما قبل العملية.
لك أن تتخيل أن الحرب التي كانت تقوم قبل دوام الثامنة صار عليها أن تقوم أبكَر من ذي قبل!
لا أذكر كم استغرقتُ من الوقت كي أتمكّن أخيرًا من الالتزامِ بهذا الدوام المبكر للغاية ومباشرة العمل فور وصولي، لكنّني أعلم جيدًا أنه استغرق مني جهدًا وجهادًا واجتهادًا لا مثيلَ لهم، حتى صرتُ أوّل الواصلين صباحًا وآخر المغادرين مساءً في كثيرٍ من الأيام.
أتاحَ لي التدريب فرصًا جميلة؛ كالمشاركة في العمليات بالتعقيم وخياطة الجلد، في غرفة عمليات التجميل تحديدًا تمّت أولى تجاربي في الغرز الجراحية، إذا أدّيت غرزًا على امتداد عضد المريضة تحت إشراف البروفيسور، وقد كانت مرضية تمامًا كما تمنيت.
تولّيت زمام العيادة منفردة، أستقبلُ الحالات، أناقشها مع الاستشاري، نضعُ الخطة العلاجية معًا، أضيفُ الملاحظات على ملف المريض أو المريضة وأطلب الإجراءات التي تلي هذه الزيارة. كان شعورًا خلّابًا ذلك الذي يتولّد لديّ حينَ أقدم خدمة مباشرة للمرضى، حينُ أنصت لشكوى المريضة، أتفهّم معاناتِها وأشرعُ في تلبية حاجتِها. على الرغم من أن العيادة كانت تمتدّ من الواحدة ظهرًا حتى السادسة أو الخامسة والنصف مساءً، إلا أن هذا الشعور كان يُعيدني للمنزل بحيويّة تفوقُ حيويّة الصباح.
لم تشبه عيادة التجميل السُمعة الرائجة عنها، لم تكن الحالات تدور حول تغيير المظهر وإبراز جمالِه، إنّما كانت عن إعادة المظهر غير الطبيعي لشكله الطبيعي والمعتاد؛ من ذلك إصلاح الشفة الأرنبية لدى الأطفال، فصل الأصابع الملتصقة وإزالة الأصابع الزائدة، ترميم الثدي لدى النساء اللاتي خضعن لعمليات استئصال الثدي بسبب الأورام. كنت أقابل بشكل يومي تقريبًا حالات ترميم الثدي، من بينهن ثلاثينيات وعشرينيات، حقيقةً لو كانت لدي نصيحة واحدة للنساء بعد تدريبي في جراحة التجميل، فهي الالتزام بالفحص المبكر، لأنني رأيت عن قرب مدى انتشار سرطان الثدي وتبعاته بين مختلف الأعمار.

أخيرًا، أفسح سبتمبر المجالَ لأكتوبر وللكثير من الأطفالِ معه، آن أوان جراحة الأطفال، وأستطيعُ أن أقول أنه كان الشهرَ الأمتع والأثرى بين شهور الامتياز القليلة التي مرّت. كان مترعًا بالعلمِ والتجارب والمشاعر. كنت قد انبهرت مسبقًا بهذا الطاقم خلال سنين الدراسة، ذُهِلت بمدى عطائهم، بسعةِ علمهم ورقّة تعاملهم مع المرضى، قدمت الآن وكلي حماس لأتدرب مع نفس الفريق الذي ترك لدي هذا الانطباع الراقي.
ولم يكن التدريب أقلّ متعةً مما توقعت، تعلمتُ الكثير، أديت غرزتين جراحية مختلفة على الرّضَع، قدمت عرضًا عن المستجدات في جراحة الأطفال أمام الفريق كاملًا من البروفيسور إلى الطلاب، تناولت الحالات الموجودة في الجناح وتابعتها بشكل يومي، كنت قريبة جدًا من المريض الذي أُسنِدَ لي، صرتُ أعرف هواياتِه، اهتماماتِه وأسماء أخواته، تبادلت كثيرًا الحديث مع والدته، كنت أنصت لها وأخفف عنها، فقد طال مكوث طفلها في المشفى وتفاقم همّها.
كان جناح الأطفال يعجّ بالحياة، تسمعُ ضحكًا عفويًا وحكيًا بريئًا وانتَ تمشي خلاله، ترى كائنات صغيرة تتمشى مفعمةً بالمرح، كأن الأطفال حتى في مرضهم ليسوا مرضى. أذكر أني مرةً دخلت الجناح، فجرى نحوي طفلٌ ما دون السنتين واحتضنني دون سبب .. في مرة أخرى كنا نمشي كفريق طبي نؤدي الجولة الصباحية في الجناح، فجأة أوقفنا المناقشة وتباعدنا عن بعضنا كي يتسنى للطفل ابن الثلاثة أعوام أن يسير من بيننا على سيارته التي يحرّكها بقدميه الدقيقتين وهو يصدر صوت البوق ..
حقيقةً، أغبطُ أطباء الأطفال على اللطافة التي يلتقون بها كلَّ يوم، فإن كان الطبيب يمنح المريض العلاج، فإن الطفل المريض يمنح الطبيب تدفقًا هائلًا من المشاعر العذبة.


ممتنّة بحق لأني حظيت بهذه الفرصة التعليمية وما تخللها من تجارب، ممتنّة لأنني استطعمت العلمَ من العمل بعد أن كنت أتلقّاه من الورق .. الحمد لله.