الأربعاء، 17 مارس 2021

خمسة وعشرين عام "لم تضع" وسط الزحام


أتمُّ اليوم عامي الخامس والعشرين، العام الذي ظلَّ نائيًا عن ناظري مختلفًا عن حاضري حتى خطوتُ أولى عتباتِ العقد الثالث. من حينها توقفتُ عن العدّ، أو عن الترقب بالأصح، صرتُ أهابُ عمرَ الخامس والعشرين أكثر مما أتوق له، انتبهت متأخرًا أنني حمّلتُه فوقَ طاقتِه، فوقَ سِعةِ أيامِه ولياليه المزدحمة بي وبما يحدث لي، حمّلته عبءَ الأماني المتأخرة التي راكمَتها سنيني السابقة، وكَّلته كشفَ الخيرة من كل تأخيرة تعمّدتها أو اصطدمت بها، لأنّه طالما بدا بعيدًا، اخترتُه موعدَ التسليمِ النهائي لكل أحلامي النابعة منّي، التي لا تخضع لخطوط زمنيّة محددة أو قوى خارجية تنبّهني وتؤنّبني إذا تأخرت في تحقيقها.

حينَ أخذ يقترب، أخذت أفزع، أتذكّر الأسقفَ العالية التي بينتُها وأخشى أنها صارت أعلى من أن تُرى أو تُبلَغ، أخشى أنها لم تقترب كما أردت. بدا أنني بالغتُ في وضعها من البداية أو في تخيل المسافة بيني وبين هذا العمر.

سأعترف، لم أحقق كل الأهداف، حققت أحدها وأهمّها، والآن أعيش رفاهية الاستمتاع بممارستِه، عدا عن ذلك لا تزال باقي الأهداف متمسّكة بمقاعد الانتظار حتى عمرٍ آخر أختاره لها. المثير في الأمر أنني خلال السنين الماضية أُوتيت أهدافًا لم أخطط لها، لا أعلم هل أسميها صُدف أو انتهاز فرص، لكنها أرزاق عظيمة أحمدُ الله عليها، وأتعجب كيف لم يخطرْ ببالي يومًا أن أسعى لها، ثم أعودُ أمتنّ لحدوثها، وطيبِ وقعها على أيامي .. هذا الأمر مريح، حقيقة أن الله سيسوق لكَ رزقًا طلبتَه أو لم تطلبْه، مطمئنة وكريمة ..


أما عن حياتي الحالية، فبعد كلِّ الزخم الذي كان، يبدو كلُّ شيء إلى حدٍّ ما في مكانِه الصحيح الآن، غدت الأمور أكثر منطقية وأقل فوضويّة، أستطيع أن ألتمسَ الحكمة في الأحداث التي تقاذفتني من قبل، التقفني الشطُّ أخيرًا، اتّضح أن تلاطمَ الأحداث كان ذو وجهة منذ البداية، وأن القلق العارمَ الذي صاحبني كان خوفي من المصير المجهول ومحرّكي نحوه في نفس الوقت. اتضح أيضًا أن المصير دربٌ طويل آخر وليس نقطة في آخر السطر، إنما مستهلّ للكثير من أحاديث وأحداث العمر القادم. لم يبهتني اكتشاف ذلك، على العكس بدا مُرضِيًا، إذ أني عرفت كم أحبّذ استمرارَ المضي على الركود والتشبّث بأحد الوجهات، شرطَ أن يكون المضي عذبًا هينًا، تستطيبُه نفسي ولا يثبّطها.


أنا أقدّر نفسي اليوم أكثر، أقدر ما فعلت، أقدّر خروجي بصحة من كلِّ ما خضته، أتذكر الأشياء التي ضقت ذرعًا بها وكرهت اضطراري لها من قبل، وأعي كم كانت طرفَ خيطٍ مبهم قادني إلى خيرةٍ كبيرة، أكبر مما توقعت.


الركض الذي ركضته من ميدان إلى طوفان، صراعاتي المتكررة وتساؤلاتي الملحّة عن جدوى ما أفعله، وجدت إجابتَها الآن، والإجابة مُوْفِية بشكل مبهر. ظهر أننا لا نحتاج إجابة واضحة للأسئلة التي تشكك في جدوى ما نفعل، إنما نحتاج لمتابعة الدأب رغم الحيرة، ثم ستتجلّى لنا الأجوبة واحدًا تلو الآخر.

حين تأنّى ركضي وهدأ جهدي بدا الوصول مستحقًا لكل السعي الذي سبقَه، تيقّنتُ أن كلَ محيِّر مقدّر ومدبّر، وهذا اليقين يبعث السلام إلى حد غير محدود، يجعلني أمضي مُقْبلةً على ما هوَ آت، تأكدت أخيرًا أنني في المسار الصحيح لي، لا يهم في أي نقطةٍ من المسار وصلت، المهم أني لم أخطئ الاتجاه، وأنني منشرحة الصدر، مرتاحة البال وأنا أمضي فيه قُدمًا.


الحمد لله على السنين الماضيات بكلّ ما تخلّلَها، الحمد لله على ما كان وعلى ما سيكون ..


١٧ مارس ٢٠٢١

في بهو العيادات التي سعيت طوال السبع سنين الماضية للعمل فيها