الأحد، 12 يونيو 2022

لسانك انعكاسك

 

على قدرِ المشاعر تكون اللغة.


هناكَ فرق محسوس في لغة الوصف بين النصوص العربية والنصوص الانجليزية، اللاتينية أو اليابانية، العربية تميل لأن تكون أكثر تعقيدًا وأبعد عمقًا، تجدُ الشعور الواحد يتجسّد في عدة صور تشبيهية تُحيطُك به استيعابًا وإحساسًا، كأنها تفضّل أن تحومَ بك حول المقصود بدلًا من تلقينِك إياه، فيُصيبُك الشعور دونَ أن تعرفَ أي كلماتِ الجملة وصفته بدقّة أكبر، كأن الجملة كاملة التفّت بصورِها وأصابتكَ في مقتل. لعلّ الأرض الثقافية المشتركة بينك وبين الكاتب تُعْلمه بمواطِن التمكّن منك، فتنصلُ حروفُه إليكَ من خلالها برشاقة، دون مقاومةٍ منك أو تكلّفٍ منه.


يبدو أن الألسنة تعكسُ طبعَ أصحابِها أو طبيعةَ مشاعرهم، فتجد الانجليزية سهلة مباشرة كأبنائها، والعربية مراوغة حائرة تجولُ حولَ المعاني قبلَ إصابتِها، كحيرتِنا عند كلّ مفترق، على قدر المعطيات والمجاهيل الكثيرة لكل معادلة نحسبها قبل أيّ خطوة نأخذُها. نحنُ نسافرُ بأذهانِنا في صورٍ تخيليّة كثيرة قبلَ بلوغِ مرمى الكلام.


في النصوص المترجمة للعربية، يلفتني الترجمان الذي يقتنصُ مساحاتِ اللغة فيدسّ فيها وصفًا عربيّ الأصل يمنحُ المعنى نفسَه، تجدُه يستخدمُ مثلًا أو تعبيرًا عربيّ اللسان في نصٍ مترجم. لا أعلم إن كان في ذلك خروجٌ عن النهج لكنّه يسبغُ على المقروء شيئًا من الأُلفة والقرب، فيغدو النص المترجم شبيهًا بقارئه العربيّ أكثر.

حينَ أقرأ نصًا انجليزيًا بلغتِه الأصل، أجدني أمرّ عليه بخفّة، لا أحتار ولا أقف أتأمّله، كأن كل الكلماتِ والأوصاف تبلغني منذ القراءةِ الأولى، لا شيء بينَ السطور أو خلفها يستوقفني، مباشرة هي اللغة لا تحملُ معانٍ غير التي تقصدُها بعينِها.

لعلَّ هذا ما يجعلُ القراءة بالعربيّة أمتع وبالانجليزية أسهل وأسرع، ولعلّ هذا نفسه ما يجعلُك تتمنّى أن تُتقن اللغاتِ جميعَها لتقرأ النصوص بألسنتِها الأصل، فتصلُك مشاعرُها ومرامِيها الأصل كما اجتاحت الكاتب في مرّتِه الأولى.


الجمعة ١١ جون ٢٠٢٢

مدينة رسولِ الله

الأربعاء، 30 مارس 2022

الأسبوع الأخير - الذكريات

 

بدا مريحًا ألّا ترتبطَ بأحد في ميعادِ أكلك، نومِك أو عودتك للمنزل، كنتُ سابقًا أتجنّب تناولَ وجباتي وحيدة، وإن كلفني ذلك قضاء يومٍ كامل دون طعام، لأن أحدًا لم يلتقِ وقت فراغِه بفراغي فنأكل معًا. حينَ أخذَت الحياة تنحو منحى جديًا أكثر وتمنحني مسؤوليات تتطلب طاقةً تكفي للتفكير واتخاذ القرارات على الأقل، انتبهت أنّ من غير العملي أن أُرهن حاجةً بيولوجيّةً كهذه بوجود أحدهم من عدمه، صار من الحكمة -على أقل تقدير- أن أستجيبَ لجوعي متى دقّ، بدلًا من تجاهلِه، فصرتُ آكل لمامًا، ما يكفي لأتابعَ يومي، وأؤجل وجبتي الرئيسية لما بعد. حينَ مكثتُ في الرياض، صار الأصلُ أن آكل وحدي كلَّ الوجبات، باختلاف أحجامها وأوقاتِها، مع الأيام، وتكرار الضروري الذي لا أحبّ، ألفتُ ذلك. طابَ لي أن آكل ما شئت متى شئت، صرت أستمتع بالأكل منفردة وأتلذّذ، لم أعد أعامله كمهمّة علي الانتهاء منها فقط. أستطيع القول أني تجاوزت نقطة من نقاط ضعفي، وإن بدت طفيفة سخيفة.


أخذت ملامحُ المدينة تروقُ لي أكثر فأكثر، ويطيب لي التجول فيها، صار قضاءُ الأيام قابلًا للتشكيل وفقَ ما أخطط أو ما يخطر على بالي حينها، وقتي الخاص الذي كنتُ أحشره بينَ التزاماتي، صار عندي بوفرة ودونَ مشقّة، باتَت الطُرقات ميدانًا وملعبًا، متى استوقفني فيها مقهى، نزلتُ فيه دونَ تنسيقٍ مع أحد، وقضيتُ الساعات بين قهوةٍ ورواية، في واحد من أبهى أشكال الاسترخاء والسلام بالنسبةِ لي. لعلّ هذا تأصّل أكثر حين قدتُ السيارة، فلم أعد أتقيد حتى بإتاحة السائق، وهذا التحرّرُ من الروابط منعشٌ للغاية، تأتّى لاختياراتي أن تكون وليدة اللحظة دون أن ينجم عنها عطل، وراحت الساعات تجري كما يجري خاطري دونَ سباق بينهما.


مع اقتراب ميعادِ مغادرتي للرياض، يجتاحني الحنينُ إليها، بدا أننا ننتمي ونحنّ للذكرياتِ، لا للأماكن، أشعرُ الآن بالامتنان للرحلة، لأنني اخترت القدوم، للفرصة التعليمية التي حظيت بها والتجربة الشخصية التي استمتعتُ خلالها، للعقول الجديدة التي التقيتُها، ولحظاتِ الانفراد المسالمة التي نأيتُ إليها، شعورُ الامتلاء هذا يدفعني لخوض تجربة مشابهة مرةً أخرى، هُنا أو في مدينةٍ أخرى، لعلّنا لا نكتفِ من وقتٍ نقضيه مع ذواتِنا، في حضورٍ تام، دونَ ركض أو احتدام.


في الواقع، حينُ أراجع أيامي من لحظة الوصول للآن، أجدني أحببت الرياض بعد سفر عائلتي إليها، بعد نهاية الأسبوع المفعمة بهم، بعد أسابيعِ العمل التي انتهت بالتقاءِ أشخاص حياتي، فأترعتني طاقةً لقضاء أيامٍ أخرى هنا، أجدني أحببتُ الحياة الهادئة المستقلة ما دام يتخلّلها صخب الأصدقاء ودفءُ الأسرة بينَ حين وحين، وهذا أبهى اتزانٍ شعرتُ به .. لعلَّ كلا نمطي الحياة -الانعزالية والمغمورة بالعلاقات- جميل ما دامَ اختيارًا نستمتعُ به، لا اضطرارًا نتصبّر عليه.


٢٠٢٢/٣/٣٠

على الطائرة بين مدينتَيّ