الثلاثاء، 29 مارس 2022

الأسبوع الثاني - المكان

 

أتذكر أقصوصة ألزهايمر لغازي القصيبي، لم يلفتني إبّان قراءتِها أن يعقوب العريان حين احتار في تصنيف المنشأة التي تحتضنه ومصابي ألزهايمر، اختار أن يسميها "المكان"، بدت التسمية تجريدًا من الانتماءات والمعاني، لتدل فقط على شيءٍ ما، شيء عرّفه نحويًا، بينما أبقاه نكرة ضمنيًا، اسم لا يوحي بشيء ولا ينطوي على شيء ..


أستطيع الآن أن أعي مقصده وأرتبط به إلى حد ما، أنظر إلى هذه الشقة المفروشة التي افترشَتْها أيامي الجافة في الرياض وأعجز عن تسميتها، هل تكون منزلًا؟ لكن المنزل ما تنسحبُ من ازدحام يومك لرحابة دفئه وحميمية أثاثِه، تجلس على أريكة تحمل ذكريات أكثر مما حملت أجساد، تتحرك في مساحاتٍ تحفظها وتألفُك، تفتحُ خزائنَ لم تتغير عما تركتْها عليه ليلة أمس، بالترتيب التلقائي الذي اجتهدت فيه والفوضى المتوقعة التي أحدثتها، جهاز التكييف يحفظ درجة الحرارة التي عيّرتها، أمتعتك كلها هنا، وإن لم تستخدمها لسنين، ستظل باقية تنتظرُك. كل الأشياء تشبهُك، تشتاقُ عودتَك من زخمِ يومِك لتحتضنك. أما هذه الشقة فكسوتُها من كسوةِ أخواتِها في كل العالم، الخشب البني الصريح، المطبخ الصغير، الأرفف المختصرة، والأدراج الفارغة من الذكريات والأمتعة. المنزل مرفأك الآمن الهادئ، أما هُنا .. لعلي أأمنُ المكانَ وهدأتَه، لكنني لا أأمنُ فيه مشاعري وضجيجها، أخشى كل يوم ما سأشعر به لاحقًا، في المكان الأصم الذي سأبيت فيه لأشهر.


فكرتُ أنها قد تشبه الفندق أكثر من المنزل، نظرًا لنمطيةِ تصميمِها، لحقائب السفر الكبيرة المتربعة على سطحها، لخدمة الغرف وموظف الاستقبال الذي يسعى لإيجادِ سائق يوصلني للعمل، بعد أن شهد انتظاراتي وخيباتي من تطبيقات التوصيل مزاجية الأسعار والأوقات! لكن الفندق للإقامة الممتعة القصيرة، للهرب من نمطية الأيام لأدرينالين السفر، لمفاجآت المغامرة والتجارب الغامرة، لتقضي اليوم كلَه تمرح في ميادين المتعة والحداثة ثم تعود تلقي جسدك الطافي من فرطِ ابتهاجِه على السرير الأبيض والوفير، كأنك بكاملك طائرة سياحية مطمئنة على ظهر غيمة، وغدًا تنطلق في تجارب أخرى بذلت في الإعداد لها وقتًا ومالًا وخططًا. كان هذا شعوري في حضرة عائلتي، حين سافروا للرياض فجأة دونَ سابق إنذار لي أو تنبؤ من قبلهم، فحولوا نهاية الأسبوع الرمادية الباهتة إلى مهرجانٍ من مشاعر فيّاضة الألوان، كان مدهشًا وغامرًا أن يتكبّد أحد عناء السفر كي لا يتركك تقضي إجازتك وحدك، كي يغدو أُنسك وأغنيتَك، كان هذا اللقاء زاخر الاحتواء، بما يقويني لمتابعة الأسابيع التالية بعد عودتِهم.


٢٠٢٢/١/١٠

الرياض - حين كانت المكان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق